• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

لا يمكن أن تُساند انقلاباً على مسار ديمقراطي خطَّتْه ثورة شعبية، ثم تخرج من ذلك سليم البنية مُعافى البدن. فالشعب، في مجموعه، خسر الرهان على المسار الديمقراطي وتكريس دولة القانون وتوسيع مظلة الحقوق والحريات، سياسية واقتصادية واجتماعية؛ ودخل مرة أخرى إلى نطاق الاستبداد وبصورةٍ أشد بشاعةً من تلك التي ثار عليها في يناير/كانون الأول 2011.
والمؤسسة العسكرية انتقلت من خانة من اصطف خلف الشعب وأيّد مطالبه إلى المستأثِر بالسلطة والثروة والداعم للاستبداد. وما أنجزه القضاء خلال أكثر من 40 سنة، منذ تعافيه من مذبحة 1969، فقده خلال أقل من 40 شهراً. فالمؤسسة القضائية (الموصوفة منذ دستور 71 بالسلطة القضائية) لم تكسب شيئاً كما اعتقد كثيرون، فحتى المكاسب الآنية والفئوية كالزيادات في رواتب القضاة، مهما جرى المبالغة فيها أكلتها الارتفاعات في أسعار السلع والخدمات، والتهديد بأن تصل الأزمة الاقتصادية، التي أثرت على قيود الموازنة، إلى ميزانية القضاء في العام القادم أو الذي يليه، فمؤسسة القضاء فقدت في هذه الفوضى أدوات التأثير في اتجاهات الدولة، ومن ثم فما تناله هو برضا السلطة التي أصبحت قادرة على أن تسترد جبراً ما تمنحه.
تاريخياً، كان القضاء جزءاً من تشكيل الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد بالتدريج ومنذ اكتسابه 3 أذرع مهمة: نادي القضاة الذي تكوّن باجتماع 59 قاضياً سنة 1939، ومجلس الدولة الذي نشأ في 1946، والمحكمة الدستورية العليا التي تأسست في 1979.
وبسبب من دوره الوطني، تعرّض القضاء للعديد من الأزمات؛ أشهرها مذبحة القضاء في 1969، حيث جرى عزل كل القضاة ثم إعادة تعيين من ترضى عنه السلطة؛ لكنّ أخطرها ما لحق بالقضاء بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013؛ إذ فقد فيها القضاء القدر من الاستقلال الذي راكمه عبر 4 عقود منذ إقرار دستور 1971، وفقد مكانته في الوجدان الشعبي الذي ارتبط به منذ الإصلاح القضائي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
فمنذ دستور 71 وبعد أن بدأ القضاء التعافي من مذبحة القضاة، انخرط في معركة غير معلَنة لتأكيد استقلاله واستكمال عناصره، وكذلك مدّ رقابته على السلطة التنفيذية، مدافعاً عن حقوق وحريات الشعب بأحكام تواترت عبر 4 عقود ترسم صورة مشرّفة لقضاء يحاول أن يقوم بوظيفته في الدفاع عن المال العام وحقوق وحريات المواطنين الأساسية، رغم ضيق المساحات التي أُتيحت له.
وابتداءً من نهاية السبعينات، تضافر قضاء مجلس الدولة وأحكام "الدستورية" لإقامة جدار حقوق وحريات المواطنين الذي كاد ينقضّ تحت معول الاستبداد. فألغت "الدستورية" تشريعات قيدت حق الملكية، وأسست لعدم جواز المصادرة دون حكم قضائي، وعالجت آثار تأميم فوضوي اعتبرته "استعمالاً تعسفياً لسلطة الدولة لتقييد حقوق المواطنين في التملك".
وكذلك، سعى القضاءان لاستعادة مبدأ حرمة الحياة الخاصة ومساواة المواطنين أمام الوظائف العامة، وحرمة تعذيب المواطنين، والانتقال من تأكيد مسؤولية الفاعل إلى مسؤولية الدولة بإلزامها بالتعويض عن التعذيب؛ بل وعن فترات الاعتقال أو السجن التعسفي. 
وبينما قضت "الدستورية" بعدم دستورية قانون الاشتباه؛ على اعتبار أن توقيف شخص يجب أن يستند إلى خطورته الفعلية وليس لمجرد الاشتباه في ذلك؛ فإن مجلس الدولة وضع أساساً لتحجيم آثار قانون الطوارئ، معتبراً أنه "لا يمنح السلطة التنفيذية سلطات مطلقة؛ بل تبقى مقيدة بأحكام القانون والدستور واحترام الحقوق الأساسية للمواطنين".
وفي مجال حماية المال العام، تبقى أحكام مجلس الدولة بشأن إلغاء قرارات خصخصة أصول الدولة وفق تقييمات بخْسة وإجراءات مشكوك في نزاهتها، علامة مضيئة في تاريخ القضاء المصري.
بالطبع، كانت السلطة التنفيذية تضرب بكثير من تلك الأحكام عرض الحائط، وبقيت سلطة القضاء مقيدة بتدخلات الإدارة، وبقي استقلال القضاء جزئياً. ومع ذلك، فإن تطور المجتمع نحو المطالبة بالحقوق والحريات وكشف الفساد وملاحقته مَدينٌ في جزء منه لجهود تلك المؤسسة رغم ما عانته من قيود وتضييق.
بعض من النجاح -بل وأيضاً الإخفاقات- يشهد بأن مؤسسة القضاء لم تملّ من المحاولة والسعي لاستكمال عناصر استقلالها والقيام بكل وظائفها المفترَضة، في ظل ضغوط لم تتوقف لتحويل المؤسسة إلى ملحق بمكاتب السلطة التنفيذية تستخدمها لتغطية عسفها وفسادها.
يُضاف إلى ما تقدم، مواقف نادي القضاة المتواترة في الدفاع عن الحقوق والحريات والتنسيق في عمله مع مؤسسات المجتمع المدني والنقابات المهنية، خصوصاً نقابة المحامين لإعادة بناء جناحي العدالة؛ ثم كفاحه لاستكمال عناصر استقلال المؤسسة؛ بإنهاء ما تبقى من آثار لتبعيتها للسلطة التنفيذية، بما فيها إلغاء لجنة التفتيش على القضاء التابعة لوزارة العدل والتي تُستعمل في التنكيل بالخصوم السياسيين للسلطة التنفيذية وإجبار القضاة على الانصياع لتوجهاتها؛ وتعديل تشكيل المجلس الأعلى للقضاء بما يسمح بتأكيد استقلال القضاة في إدارة شؤونهم، وصولاً حتى لأنظمة علاج القضاة.
كما أن مؤتمر العدالة الأول المعقود في 1986، ثم مشروع قانون القضاء المقترح من نادي القضاة بعد ذلك، وأخيراً تيار الاستقلال الذي بزغ قبيل ثورة يناير، رسمت جميعها اتجاهاً عاماً للقضاء تجاه إصلاح المؤسسة وتحقيق الاستقلال لها وتحويلها إلى مؤسسة تخدم الشعب وتدافع عن العدالة.
وبالإضافة إلى تدخلات السلطة، عانى القضاء ميلَ بعض منتسبيه إلى التوافق مع السلطة التنفيذية والاستجابة لها في مقابل ميزات فئوية؛ كدعم الاتجاه للقبول بنظام عرفي لوراثة الوظيفة القضائية، أو زيادة الدعم للأنشطة الاجتماعية والعلاجية لنادي القضاة أو غير ذلك.
ورغم ذلك، فإن الاتجاه العام كان أشد تأكيداً على الدور الوطني للمؤسسة في دعم مطالب الشعب، بالإضافة إلى قبول بعض التضحية في مقابل تحقيق كامل استقلال السلطة القضائية وتحولها إلى سلطة حقيقية لا تتبع سوى الشعب ولا تلتزم إلا بما ينص عليه الدستور والقانون.
ورغم الخطة الجهنمية التي اتبعتها السلطة التنفيذية والتي تزايدت منذ عام 2000 لإغراق القضاء في بئر التبعية للسلطة التنفيذية، بالتغافل عما يسمى مسيرة التوريث المقدسة وزيادة سن القضاة للإبقاء على القضاة الأقرب إلى قلب السلطة، واستخدام ميزانية القضاء للتأثير على ميول القضاة، إلى غير ذلك - فإن القضاء بقي في عمومه مؤسسة وطنية تعمل على استقلالها، وكان تيار استقلال القضاء إعلاناً بأن روح مقاومة تغوّل السلطة التنفيذية لم تتوقف.
لكننا اليوم نقف على أعتاب السنة الرابعة للانقلاب، لا نملك إلا الإقرار بأنه كما تغلّب التيار الاستبدادي في السياسة بسبب قدرته على الخداع في مواجهة ثوار رومانسيين، تغلّب التيار المستعدّ لأن يُقايض ميزات فئوية تافهة باستقلال القضاء.
ولم يُدرك هذا التيار أن إهدار مصالح الشعب هو إسقاط لمؤسسة القضاء وإضاعة لاستقلالها، وأن التفريط في استقلال المؤسسة يعني التفريط حتى في المصالح الفئوية التي تتحول إلى مجرد منّة من السلطة المستبدة تنتظر مقابلاً لها أو تذهب إلى إلغائها.
إرهاصات لا تخطئها عين بأن روح الاستقلال في القضاء لم تمُت، كما أرسلت انتخابات نادي القضاة الأخيرة رسالة بأن الأكثرية في مؤسسة القضاء ترفض الأوضاع الراهنة وتتمنى العودة إلى مسيرة الاستقلال واستعادة ثقة الشعب. لكن تجربتنا القريبة أثبتت أن "وما نيلُ المطالب بالتمني" فقط، ولكن يؤخذ الاستقلال غلاباً.

 

أضف تعليقك