من الضروري إلقاء الضوء على معالم رؤية الجنرالات لأنفسهم وللشعب المصري، كيف يدركون أنفسهم كدولة فوق الدولة، وكيف يحتقرون الشعب المصري ويرونه عبئا عليهم، وذلك من خلال اختيار عدد من التصريحات النموذجية الصادرة عن الجنرالات منذ ثورة يناير وحتى الآن في مواقف متعددة، إضافة إلى تحليل ما ورد في التسريبات الفاضحة.
البداية مبكرة للغاية في 27 آذار/مارس 2012، من ندوة عقدها المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعنوان "رؤية للإصلاح الاقتصادي "، حيث فوجئ الحاضرون (وهم عدد قليل من الاقتصاديين وكبار الصحفيين)، باللواء محمود نصر مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية، منفعلا في رده على المطالب المتصاعدة للمدنيين بمناقشة وضعية الجيش وما يتعلق بها من تفصيلات مالية واقتصادية وكذلك إخضاع مشروعات الجيش الاقتصادية للرقابة المدنية.
"ده عرقنا وسنقاتل كل من يقترب منه"، هكذا قذفها الجنرال مدوية في وجه الحاضرين الذين لاحظوا أن أحدا منهم لم يطرح تساؤلات بهذا الشأن خلال الندوة وأن حديثه إليهم بهذا الشكل ينطوي على منطق "إياك أعني واسمعي يا جارة "، وكأنه أراد من خلالهم أن يرسل رسالة ترهيب لكل من تسول نفسه من المدنيين أن يسترسل في الحديث عن هذا الأمر مجددا.
لم تكن هذه العبارة على حدتها معبرة فحسب عن رؤية الجنرالات لأنفسهم باعتبارهم مؤسسة فوق الدولة أو بالأحرى دولة فوق الدولة، بل كشفت عن مدى ما يمكن أن يصل إليه الأمر في حالة استمرار تلك المطالب المدنية بمناقشة مشروعات الجيش الاقتصادية، فالأمر قد يصل إلى حد "القتال" كما قال الجنرال محمود نصر، وهو أمر بالغ الخطورة سواء إذا قيل على سبيل الحقيقة أو حتى على سبيل الترهيب والتخويف.
كانت العبارة السابقة كافية لتوصيل الرسالة، ولكن يبدو أن الرجل أدرك مسألة انفعاله فحاول أن يلطف من الأمر بعبارة أخرى تبدو مسببة وتحمل حجة تختلف عن العبارة الأولى التي لا تحمل سوى انفعالات نفسية قد تؤخذ عليه في مثل هذه الموضوعات الحساسة، فقال الرجل: "لن نترك مشروعاتنا للدولة لتخرب" في محاولة لتبرير استقلال الجيش ببعض المشروعات بعيدا عن الدولة.
وهذه العبارة في منتهى الأهمية، للدلالة على رؤية الجنرالات لمفهوم الدولة نفسه وموضعهم فيها، فالرجل يتحدث وكأن المؤسسة العسكرية كيان، والدولة كيان آخر، وليس باعتبارها جزءًا من الدولة، فيقول: "لن أترك مشاريعي التي هي عرقي للدولة حتى تخرب"، وهذا التصريح على ما فيه من اعتراف ضمني بتفشي الفساد والإهمال في كل مؤسسات الدولة، حتى صار ذكر مفردة الدولة مرادفًا للإهمال والخراب، إلا أن الأهم هو ما ينطوي عليه التصريح من عدم قدرة على التمييز بين الدولة والحكومة، وسواء قصد الرجل هذه الدلالة أو لم يقصد، فإنه يشير إلى نفسه ومؤسسته بأنها خارج هذه المنظومة ككل، أيًا كانت تسميتها (دولة أو حكومة).
تمر الأيام وتنكشف التسريبات الفاضحة للجنرالات، وإذا بهم يفكرون في أنفسهم بنفس الطريقة التي صرح بها اللواء محمود نصر من قبل، فهذا تسريب للسيسي وقت أن كان وزيرا للدفاع أيام الرئيس مرسي، يتحدث فيه مع عدد من قادة وضباط الجيش عن مخاوفه من البرلمان القادم وإمكانية المسائلة أمامه قائلا: "فيه برلمان قادم وممكن يقدم طلبات استجوابات، ماذا سنفعل؟ لابد أن نكون مستعدين لمواجهة هذه المتغيرات بحيث لا تؤثر علينا سلبًا". وهذه العبارة تشير إلى رؤية العسكريين للثورة كتهديد، وللديمقراطية كتحد، كما تشير إلى رؤيتهم لأنفسهم ككيان لا يجب أن يخضع لأي نوع من الرقابة بما فيها الرقابة البرلمانية الديمقراطية.
وهذا تسريب آخر من حوار السيسي مع ياسر رزق رئيس تحرير جريدة "المصري اليوم" في 1 نوفمبر 2013، يتهكم فيه على جرأة الرئيس مرسي في اتخاذ قرار إقالة القيادات العسكرية السابقة، قائلاً: "لا يصح بعد كل هذه السنين الطويلة، وفي ظل حالة السيولة التي تعيشها الدولة المصرية بعد الثورة أن يأتي أحد ويسيطر على المؤسسة.. فيه احتمال يهدها بدون قصد حتى.. أتصور أن عدم تقديرهم لرد فعل المؤسسة وحجمها هو الذي دفعهم لاتخاذ هذا القرار الخاص بالمجلس الأعلى الفائت.. لو كانوا مدركين لوزن وقدرة المؤسسة لما اتخذوا هذا القرار.. غير مرسي على سبيل المثال (يقصد مبارك) كان يستغرق سنة في التفكير لاتخاذ قرار صلاة العيد مع الجيش من عدمه". ويشير هذا التسريب إلى رؤية العسكريين للحاكم المدني أو المدنيين عموما، ولأنفسهم كمؤسسة مستقلة ترفض الانصياع لأي سلطة مدنية.
في نفس الحوار السابق طلب الجنرال السيسي بتحصين وضع المؤسسة العسكرية في الدستور الذي تم تعديله من قبل لجنة معينة من قبله، قائلا: "المؤسسة العسكرية تحتاج تحصينًا في الدستور لدورها خلال الفترة الماضية، وعلى الجميع أن يدرك أن هذا الدور سيظل له امتداد خلال 5 إلى 10 سنوات على الأقل، أيًا كان الذي سيصل إلى الحكم، مدني، ليبرالي، ديني".
وتلخص هذه التصريحات ما يسعى إليه العسكريون منذ الثورة وحتى الآن، من محاولات تأمين وضعية الجيش كمؤسسة مستقلة فوق الدولة، كما تشير التصريحات إلى حالة من حالات التوجس والخشية والحذر العام من المدنيين عموما، لدرجة تجعلهم يطلبون تحصين وضعهم لسنوات، تحسبا لأي احتمال ينفذ منه مدني إلى رأس السلطة التنفيذية، وهو ما تم اقراره في تعديلات الدستور 2014 ، حيث تم النص على أن وزير الدفاع يعين بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بما يعني أن وزير الدفاع المعين صار فوق رأس السلطة التنفيذية المنتخب، وهو وضع دستوري شاذ لا يوجد في أي بلد في العالم، حتى البلاد الأفريقية التي تكثر فيها الانقلابات العسكرية. وربما يشير هذا الأمر أيضا إلى حالة من حالات الإحساس بخطورة ما تم في 3 يوليو وما بعدها، بما يعني أن حالة الصراع مع المدنيين ستستمر لسنوات وفق تصوراتهم.
الأغرب من ذلك أيضا، الطلب الذي طلبه الجنرال من رئيس تحرير "المصري اليوم" في نفس الحوار، حيث طالبه بالتنسيق مع المثقفين، لقيادة حملة لتحصين منصبه كوزير للدفاع في حال ما إذا ترشح للرئاسة ولم ينجح، بحيث يعود للمنصب دون أدنى مشكلة، "المفروض تقود حملة مع المثقفين (أي بالتنسيق معهم)، لوضع فقرة في الدستور تحصن الفريق السيسي كوزير للدفاع، وتسمح له باستئناف دوره حتى لو لم يدخل الرئاسة"، وهو أمر بالغ الدلالة فيما يتعلق برؤية الرجل لمنصب وزير الدفاع كموقع محصن فعليًا ينطوي الابتعاد عنه على مخاطرة كبيرة يجب حسابها ذهابا وإيابا، كما ينطوي هذا التصريح على دلالة مهمة تتعلق بقلق الجنرال من الشعب، لدرجة تجعله يفكر ويطرح فكرة التلاعب بكل الأعراف والتقاليد الإجرائية المستقرة في أي عملية انتخابية، في وقت يروج فيه لنفسه أنه "حامي ثورة 30 يونيو"، التي بلغ عدد المشاركين فيها -كما يدعي- ثلاثين مليونا من البشر.
هكذا كشفت تصريحات الجنرالات وتسريباتهم، رؤيتهم لأنفسهم كدولة داخل دولة أو كدولة فوق الدولة، لا تخضع للحساب أو المراقبة من أي أحد حتى لو كان منتخبا، سواء كان رئيسا أو برلمانا، هكذا ينظرون لأنفسهم فكيف ينظرون للشعب؟ هذا ما نتابعه في المقال القادم.
أضف تعليقك