"في ضوء الأكاذيب والانحطاط الأخلاقي الذي تمارسه بعض وسائل الإعلام" هكذا بدأ د. محمد البرادعي بيانه الذي دافع به عن صفتيه معا: مدير وكالة الطاقة الذرية سابقا، وشريك انقلاب يوليو 2013 المنسحب منه بعد مذبحة رابعة العدوية، ووصف البيان بأنه "توضيح موجز" مفترضا أنه "قد يكون مفيدا لسرد بعض الحقائق".
أسأل د. البرادعي: حسنا، وأين الحقائق؟
أليس حسنا أن نتذكر جميعا، ونحن في سياق ثورة واحدة -وإن تعددت أطوارها ومراحلها- كم سالت من الدماء، وانتهكت من الحقوق التي كان يمكن صيانة الكثير منها لو لم نقبل كل قول على علاته، ونتغاضى عن التدقيق والتصحيح لصالح "اصطفاف" مازال سرابا، ومازال البعض يجتهد مع ذلك في مطاردته؟
لا يمكن للصف أن يستقيم على أرض الأكاذيب الزلقة، ولا يصح أن نقبل المغالطات، متنكرين لما رأيناه وما سمعناه، بزعم الترحيب بالعائدين إلى مسار الثورة، مع أنهم لا هم عادوا ولا هناك مسار، ذلك أن "الإنكار" لا يصلح وسيلة للرجوع إلى الحق، بل هو الطريق الأقصر لمزيد من الأباطيل.
والأمر بسيط: على من يرى أنه أخطأ (مهما كان حجم الخطأ أو الجرم) أن يعتذر، مقرا ومقترحا ما يمكن أن يفعله على سبيل التصحيح، ليحظى بتسامح يصل إلى نسيان ما ارتكب بالكلية. أما إدانة الجرم، مع إنكار المشاركة فيه، فجرم آخر ممن ينكر، وممن يرحب بهذا الإنكار، سواء كان هذا الترحيب بدعوى أن وصف الجرم في ذاته يدين الآخرين الذين شاركوا فيه (والصحيح أنه يدين كل من شارك فيه، ومنهم المنكر نفسه) أو بدعوى "قبول الاعتذار" مع أنه لا يوجد اعتذار ليقبل.
لهذا أقترح على الدكتور محمد البرادعي تعديل بضعة أسطر من "بيانه" ليصبح متفقا مع ما ذكره بنفسه من قبل:
ـ يقول البيان "فوجئت في بداية الاجتماع أن رئيس الجمهورية كان قد تم احتجازه بالفعل صباح ذلك اليوم من قبل القوات المسلحة (من) دون أي علم مسبق للقوى الوطنية". وأقترح التعديل العبارة إلى: "شاركت في انقلاب عسكري على الديمقراطية، ووافقت مع كل المشاركين في مشهد 3 يوليو، على عزل واعتقال الرئيس د. محمد مرسي، بما يخالف القانون".
التعديل المقترح يتفق مع ما ذكره د. البرادعي في حواره مع "الواشنطن بوست" بتاريخ الجمعة 2 من أغسطس 2013، حيث سألته محاورته ليلي ويماوث: أين الرئيس المعزول محمد مرسي؟ فقال: "في مكان آمن غير معلوم لحمايته، فهو محتجز على ذمة قضايا مثل التخابر والتحريض على العنف، ونحن كحكومة لن نتدخل في عمل القضاء".
وهي إجابة لا تعني فقط الموافقة على اعتقال مرسي (وتلك مخالفة) في مكان غير معلوم (وتلك مخالفة أخرى) لكنها تتبرع بأكذوبة تبرر المخالفتين بزعم أنه محتجز لحمايته (هل يمكن للبرادعي أن يردد الكذبة نفسها الآن؟ إن كان يخجل منها فليعتذر عنها) كما تتبرع بأكذوبة أنه محتجز على ذمة قضايا، مع أن هذه القضايا لم تفتح ملفاتها، ولم يعرف أنها "قضايا" بعناوين مختلفة إلا بعد شهور من الاعتقال، ولم يفتح ملف القضية الأولى إلا بعد أسابيع من الحوار (كان الانقلاب يحتاج مهلة للتلفيق) فكيف عرف د. البرادعي بقضايا لم يعلن عنها القضاء بعد؟ وكيف يزعم بعد هذا أنه ـ كحكومة ـ لا يتدخل في عمل القضاء؟
وفي حواره مع مجلة "دير شبيغل" الألمانية، المنشور في 8 من يوليو 2013، تحت عنوان "هذا ليس انقلابا"! يقول د. البرادعي: "من دون عزل مرسي من منصبه كنا في طريقنا لنصبح دولة فاشية، أو كانت ستنشب حرب أهلية، لقد كان قرارا مؤلما، وكان خارج الإطار القانوني، ولكن لم يكن لدينا خيار آخر".
وبعيدا عن أن السياسة لا تعترف بفتح "المندل" وقراءة الطالع، وأن الانقلاب الذي شارك فيه البرادعي هو ما جاء بفاشية اصطلى هو نفسه بنارها، بعيدا عن هذا فنحن أمام اعتراف صريح بأن البرادعي شارك في عمل ضد د. محمد مرسي، خارج الإطار القانوني، وهو على علم بطبيعته، متذرعا بأنه "لم يكن لديهم خيار آخر" وهي ذريعة إن أخذنا بها على إطلاقها لأصبحت كل الجرائم مباحة. ثم إن مشاركة البرادعي في مخالفة القانون بخصوص عزل الرئيس، يجعلنا نصدق أنه شارك أيضا في مخالفة القانون باعتقاله، خاصة وأنه أكمل الطريق مع عصابة الانقلاب لأسابيع، ودافع عن الاعتقال وبرره في حواره مع "الواشنطن بوست" كما أشرنا.
ـ يصف البيان خارطة الطريق بأنها "خارطة طريق- تمت صياغتها في عجالة - بنيت على افتراضات مختلفة بالكامل عن تطورات الأحداث بعد ذلك". وأقترح تعديل العبارة إلى "شاركت عمدا في خداع الشعب بإعلان ما سمي خارطة طريق، مع علمي بأنها لن تطبق، أو أنها ـ في أفضل الأحوال ـ مجرد إعلان للنوايا لا هو ملزم، ولا هو سيحترم". فالعبارة بهذه الصيغة تتفق -يا د. برادعي ـ مع قولك لمجلة دير شبيغل "من الصعب رسم خارطة طريق بشكل مسبق" وذلك ردا على سؤال يقول "هل توجد خطة للفترة الانتقالية؟" والمعنى الواضح: لا توجد خطة.
ـ يقول البيان: "وبالتوازي مع خارطة الطريق فقد ساهمت وغيرى، بما في ذلك ممثلون لقوى عربية وأجنبية في مساع للوساطة مع مؤيدي الرئيس السابق، بمعرفة وتوافق الجميع بما في ذلك ممثلو المجلس العسكري". وأقترح التعديل إلى: "لم تكن هناك خارطة طريق ملزمة (كما اتفقنا في الفقرة السابقة) ولا مساع جادة لحوار مع الثوار". فهذا هو ما يتفق مع ما قلته لصحيفة الواشنطن بوست، ردا على سؤال عن وسيلة الاتصال بين الحكومة وجماعة الإخوان. حيث قلت: "حقيقة، ليس هناك حوار منتظم بين الإخوان والحكومة، فالأمر على عدة مستويات مجتمعية مدنية، ولكن في حال أن ينتهي العنف، سيكون الطريق مفتوحا لجولات من الحوار". والمعنى: حاليا لا يوجد حوار منتظم، ولن نحاورهم إلا بشرط استسلامهم تماما. وشرط الاستسلام هو ما يستفاد من الإشارة المدلسة إلى "العنف" كأن الثوار هم من يمارسونه! وهي إشارة تكررت في تصريحات أخرى لكم يا دكتور، بما يكفي للتأكد من مدى مشاركتكم في الدم، حيث يأتي قلب الآية واتهامكم "الضمني" للضحايا بالعنف، بعد خمسة مجازر هي:
1- مجزرة بين السرايات، 2 من يوليو 2013 (23 شهيدا).
2- مجزرة الحرس الجمهوري، 8 من يوليو 2013 (103 شهداء).
3- مجزرة رمسيس، 15 من يوليو 2013 (10 شهداء).
4- مجزرة المنصورة، 20 من يوليو 2013 (11 شهيدا).
5- مجزرة التفويض (المنصة) 27 من يوليو 2013 (130 شهيدا).
ولتأكيد دلالة هذه التواريخ، دعنا نتذكر أنك شريك في جبهة الإنقاذ (الغطاء المدني للانقلاب) منذ 5 من ديسمبر 2012، وأنك ألقيت بيانا متلفزا يدعم الانقلاب (29 من يونيو 2013) وشاركت في مشهد الانقلاب 3 يوليو، وبديهي أنك مسؤول عن كل ما ترتب على هذه المشاركات من جرائم، وأن مسؤوليتك تضاعفت منذ 9 من يوليو 2013 حين تم تعيينك نائبا لرئيس سلطة الانقلاب (المعين هو الآخر) للعلاقات الخارجية (قبلت أن يعينك انقلاب عسكري نائبا لرئيس معين هو الآخر في سياق بحثك عن حكم ديمقراطي! فأية ديمقراطية هذه؟).
ـ يقول البيان: "للأسف، وبالرغم من التوصل إلى تقدم ملموس نحو فض الاحتقان بأسلوب الحوار والذى استمر حتى يوم ١٣ من أغسطس، فقد أخذت الأمور منحى آخر تماما بعد استخدام القوة لفض الاعتصامات، وهو الأمر الذي كنت قد اعترضت عليه قطعيا داخل مجلس الدفاع الوطني". وأقترح تعديل الصياغة إلى "بادرت بتقديم الاستقالة بعد مجزرتي رابعة والنهضة يوم 14 أغسطس، برغم موافقتي في اجتماع مجلس الدفاع الوطني (3 أغسطس 2013) على فض الاعتصامات بالقوة، لكنني لم أكن أتصور أنهم سيستخدمون كل هذا القدر من العنف، غير مبالين بإراقة دماء الآلاف". وهي صياغة تنصفك وتنصف الحقيقة معك. والحقيقة يا دكتور أنك ـربما وحدك من بين شركاء الانقلاب ـ أصبت بما أصيب به شركاء "بونابرت" وهم يشاهدون نهر الدماء الذى جرى في شوارع باريس يوم 5 أكتوبر 1795، حين أطلق "بونابرت" المدافع على المتظاهرين فقضى على 1400 منهم في لحظات، في مشهد مروع دفع بعض من سبق أن وافقوا على التصدي للمتظاهرين إلى التراجع عن موافقتهم.
ربما وحدك من "شركاء الدم" من صدمه المشهد، فأفاق، لكنك لم تكن وحدك من وافق ـ من حيث المبدأ على "استخدام القوة" حسب التعبير الذي استخدمته في لقاء تليفزيوني في 3 أغسطس 2013، حيث قلت "هناك اتفاق على أنه لا بد أن نحمي الشعب من أي ترويع. قرار فض اعتصام رابعة سياسي أمني عسكري في دولة مدنية، وأنا النهارده بعد اجتماع مع نائب وزير الخارجية الأمريكي وممثل الاتحاد الأوربي عندنا مجلس دفاع وطني الساعة ثلاثة بعد الظهر النهارده. وأيا ما كانت الأجندة بتاعتنا فإن أيا مما نناقشه لا بد يكون فيه قرار جماعي.. إذا لم يكن هناك بديل إلا استعمال القوة ح نستعمل القوة".
وبالمناسبة، فإنك كنت في هذا اللقاء التليفزيوني تشكو أيضا من "تحريف رأيك" الذي قلت إنه "لم يتغير لا قبل نائب رئيس ولا وأنا نائب رئيس". لكن التحريف الذي أزعجك ـ آنذاك ـ كان فقط زعم الانقلابيين أنك تطالب بإطلاق سراح الرئيس د. محمد مرسي، بينما تشكو أيضا من تحريف عكسي في بيانك الذي نحن بصدده!
والحقيقة أن البيان نفسه هو "تحريف متصل" ومن هذا التحريف قولك "هناك من يدعي أنني سافرت إلى الخارج قبل ٣٠ يونيو للترويج والتمهيد لعزل الرئيس السابق، وأنه كانت هناك خطة من جانب الاتحاد الأوربي لعزل الرئيس السابق". تقول هذا (مدعيا) أنه لم يحدث، مع أنك في ندوة لمعهد الجامعة الأوربية في 8 مايو 2015 قلت بالحرف الواحد، وبإنجليزية رائقة: "لقد وقعت للوصول إلى حالة، إلى نهج شامل تكون جماعة الإخوان المسلمين والإسلاميين جزءا منه، لقد وقعت على الخطة التي وضعها برناردينو ليون (مبعوث الاتحاد الأوربي) الذي يحاول الآن أن يفعل الشيء نفسه في ليبيا".
وبغض النظر عن أن المتاح للإسلاميين في خطتيه هو (الاحتواء كسياسيين من الدرجة الثانية) وهو ما لا يشرف ولا يرضي أحدا، فإن ما قلته هو اعتراف صريح منك بوجود خطة لعزل مرسي وضعها مبعوث الاتحاد الأوربي، وكنت أحد الموقعين عليها قبل الانقلاب. فهل يصح بعد هذا أن تصف من يقرأ اعترافك بأنه "مدع"؟
وفي السياق نفسه يأتي إقرارك في حوار نيويورك تايمز بأنه "في اليوم الذي تمت فيه إزاحة مرسي، قمت بإجراء مباحثات مطولة مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري وكاثرين آشتون، المسؤولة الأولى عن الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوربي، من أجل المساعدة في إقناعهم بضرورة إقالة السيد مرسي". كما يأتي ردك على دير شبيغل عندما قالت لك: الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري اتصلا بك. فقلت: "نعم تكلمت مع كليهما كثيرا وحاولت إقناعهما بحاجتنا إلى عزل مرسي". فهل الأمر ـ بعد هذا كله ـ في حاجة إلى من يدعي، أو يسمى ادعاء؟
الخلاصة يا دكتور أنك شريك أصيل في الانقلاب، وكان دورك هو نفسه منصبك المعلن في سياقه (نائب الرئيس للعلاقات الخارجية) ولهذا تواصلت مع الخارج أثناء التحضير له. كما أنك تحملت (ولا أقول رحبت بـ) سقوط شهداء في حدود العشرات في خمس مجازر سابقة، ووافقت ـ من حيث المبدأـ على استخدام القوة في مجزرة فض الاعتصامات، والمرجح -حسب سلوكك في المجازر السابقة- أنك لم تكن لتعترض لو ظل الدم عند مستوى عشرات الضحايا، لكنك لم تحتمل وصول المنسوب إلى الآلاف، فاستقلت من عصابة الانقلاب، وهذا حسن، وتشعر الآن بالرغبة في التبرؤ من جرائمها، وهذا أيضا حسن، لكن ليس حسنا أن يهرق هذا التبرؤ دماء الحقيقة نفسها، بتجاهلك أن هذه الجرائم كانت جرائمك أنت أيضا، التي شاركت فيها عارفا بطبيعتها المخالفة للقانون، ونتيجتها المزهقة للأرواح وللحرية.
ألست أنت القائل في حوارك مع صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في 5 يوليو 2013 عن اعتقال الرئيس "لا يوجد لدينا مسار قانوني لسحب الثقة". والقائل في حوار دير شبيغل مبررا الاعتقالات والقمع "لا يمكن تطبيق معاييركم المثالية على بلد مثقل بعقود من الحكم الاستبدادي، ديمقراطيتنا مازالت في المهد"؟ وهو المبرر نفسه الذي كرره "السيسي" فيما بعد، وخمن مع من فعل هذا؟ مع الألمان أيضا!
صدمك فيض الدماء فاستقلت، وفي هذا شيء من الإنسانية، يفسده ـ على قلته ـ التنصل من جرائم فادحة، شاركت في ارتكابها في حق الحرية والثورة والوطن، وهي ـ على ثقلها ـ يمحوها إقرار واحد واعتذار علني تتقدم به شجاعا واضحا. إنه البيان الذي ننتظره، والذي حاولت مساعدتك على صياغته في عبارات واضحة.
أضف تعليقك