تمر الأمم بلحظات تكون فارقة في تاريخها، ومن أهم هذه اللحظات تلك التي تشهد تغيير أنظمة الحكم، لكن الشعوب كثيراً ما تغفل أو تتغافل عن قيمة هذه اللحظات، وهذه الغفلة التي تصيب الشعوب تُدفع لها دفعاً، وبأشكال متعددة، ومن أسباب هذه الغفلة، أو هذا التغافل، الظلم الذي يباشره النظام الحاكم ضد شعبه، وانتهاك الحقوق والحريات، وامتهان كرامة المواطنين، وضيق العيش، وتأثير الإعلام الموجه، وتسرب الإحباط إلى نفوس العامة.
وفي كل هذه الحالات نجد الكثير من الشعوب تتنازل مختارة عن وعيها لطبيعة صراعها والأهداف التي تنشدها من تغيير النظام الذي يحكمها، وتتوق إلى التغيير لمجرد التغيير، وخلع الأنظمة التي أضرت بها.
رأيت أن مصر خلال هذه الفترة من عمر الزمن تمر بمرحلة كتلك التي أكتب عنها، فالبعض يدفع المصريين دفعاً إلى ثورة جياع، ثورة حركت أيديولوجيتها بطون خاوية عانت الفقر والظلم والقهر على يد نظام قمعي مستبد، حرمهم من كل حقوقهم، وسلب منهم كل سبل العيش الكريم، وعلى الرغم من أن هناك الكثير والكثير من الأشياء أضرت بالمصريين، فإن هؤلاء القوم قرروا ألا يثوروا إلا من أجل شيء واحد فقط هو ألم البطون الخاوية، والأزمة في مثل هذه الحالات هي أن تلك الثورات ما أسهل أن يتم وأدها في مهدها، فتخيل لو أصدر السيسي أو غيره بعض القرارات الاقتصادية تحسب في مصلحة هؤلاء، وعلى سبيل المثال إصدار قرار بزيادة الدعم الحكومي للوقود، ومن ثم تخفيض أسعار البنزين والسولار، أو تخفيض قيمة فواتير الكهرباء بنسبة 40%، أو استيراد كميات كبيرة من السكر وطرحها في الأسواق بأسعار مخفضة، أو زيادة المقررات التموينية لأصحاب الدعم.. إلخ.
يبقى السؤال: هل توجد طلبات أخرى لأصحاب ثورة الجياع؟ أم أن السيسي قد حقق لهم كل طموحاتهم وآمالهم وأهداف ثورتهم؟ ألا توجد قيم أخرى يمكن أن يثور لها هؤلاء؟ هل يمكن لهؤلاء أن يثوروا من أجل تيران وصنافير؟ هل يمكن أن يثوروا من أجل مياه النيل التي تم التفريط فيها؟ هل يمكن أن يثوروا من أجل مَن تم إعدامهم ظلماً؟ هل يمكن أن يثوروا من أجل الأعراض التي تنتهك داخل مقرات الاحتجاز الرسمية للدولة؟ وغيرها من الأسئلة.
بالقطع لا، فهذا الصنف من الناس لا يوجد لديه الاستعداد للتضحية من أجل كرامته أو حريته أو إرادته التي قهرتها دولة الظلم والفساد والاستبداد. أخطر ما في هذه المرحلة من عمر ثورتنا أنها تمر بموجة للعبث بأيديولوجيتها، وتتحول فيها كل طلبات الثوار إلى مجرد طلبات لتحسين بعض الأوضاع الاقتصادية، ومن ثم تزول الثورة وتنطفئ شعلتها بزوال الأسباب التي قامت من أجلها.
ما زلت أتذكر وزير الغلابة د. باسم عودة، كيف أنه قدم لهم ما لم يقدمه أحد في تاريخ مصر، وكيف أنه أخلص واجتهد لتحقيق مصالحهم بأداء شهد له العدو والقريب، وعلى الرغم من ذلك حكم على الوزير الباسم بالإعدام، فلم ينتفض له أحد ممن أفنى نفسه من أجلهم. إن الشعوب التي قهرها الجوع فقررت أن تتحرك أو أن تثور، يجب أن تكون نظرتها أكثر شمولية من مجرد ألم البطون، فتُعلي من مبادئ أخرى هي الدواء الحقيقي لكل ما يعتصرهم من آلام؛ لتضحى ثورتهم ثورة كرامة وحرية وامتلاك الإرادة، وبذلك تنتقل الأمة من مرحلة علاج العرض إلى علاج المرض، فعلاج الجوع في مصر قد يتحقق ببعض الإصلاحات الاقتصادية الشكلية؛ ليبقى بعدها المواطن ذليلاً في أرضه، ممتهنة كرامته، مقيدة حريته، مهتوكاً عرضه؛ لذلك يجب أن يعي الشعب أن علاج ألم البطون وبقية الآلام التي خلفها النظام الانقلابي الحاكم لن يكون إلا بأن يسترد هذا الشعب سيادته، وأن يثأر لكرامته، وأن يمتلك إرادته، فهي ثورة كرامة وإرادة وحرية، وليست ثورة جياع.
أعلم عزيزي القارئ أنك تود سؤالي هل أنا مع النزول يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني أم لا؟ أجيبكم عن هذا السؤال في مقالي القادم.
أضف تعليقك