• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

مأساة حقيقية هي أن تكون قد ولدت فلسطينيًا في هذا الزمن؛ إذ ستعيش، وستموت على الأرجح، وأنت تحمل على كاهلك، بل على قلبك، عبئًا ثقيلًا يحرمك من طيب العيش؛ لأنك تمضي بجرح موجع غائر، ثمة ألف سبب وسبب لنزفه في كل لحظة. وكيف لا تفعل إذا كنت قد ولدت موسومًا كلاجئ غير مرحب به، لتعاني ما لا حصر له من مشاعر الغربة والاغتراب والقهر والاضطهاد والنبذ والتهميش والفجيعة والخذلان! 


تبدأ مأساتك كفلسطيني بأن تخرج إلى النور، بل إلى الظلام بالأحرى، وأنت تحمل هوية شائكة مثيرة للقلق والارتياب. فارتباط جذورك بفلسطين يفرض عليك شئت أم أبيت أن تكون دائما موضع الشبهة وإساءة الفهم. فإما أن تكون مشروع “إرهابي”، حسب التوصيف العالمي الساقط لكل من يفكر بالدفاع عن وطنه المغتصب، أو أن تكون مجرد ضيف ثقيل غير مرغوب فيه، مهما اجتهدت في التنكر لفلسطين والتنصل من مسؤوليتك عن تحريرها. 


يمكنك أن تكذب بالطبع من حين لآخر وأن ترفع شعارات تحرير فلسطين مع الأنظمة العربية المبدعة في رفع مثل تلك الشعارات، لكنك تعلم في قرارة نفسك أنك مجرد كاذب أفاق، لأنك لو تحامقت وفكرت جديًا بتحويل تلك الشعارات الطنانة إلى فعل على الأرض، لوجدت نفسك وراء الشمس، ولألصقت بك أفظع التهم وأشدها إثارة للفزع. إذ ستوصف عندها بالإرهابي الشرير، الذي يهدد الأمن القومي للبلد الذي تعطف عليك واستضافك، شريطة أن تمحو فلسطين، وكل ما يتعلق بها من جدول أعمالك، وأن لا تستحضرها إلا بشكل رمزي «فولكلوري» في المناسبات، وأنت تدبك على أنغام الأغنيات التراثية، وتهيئ نفسك لالتهام طبق من المقلوبة أو المسخن! 


عندما تولد فلسطينيا، فإنك لا تستطيع أن تتحرر يوما من عقدة الذنب ومن احتقار نفسك. فأنت تلوم أهلك وتلوك شعبك وتلوم نفسك، لأنكم لم تفعلوا شيئا جدياً لتحرير فلسطين. فعلى الأغلب، كانت أسرتك قد اكتفت بإطلاق ساقيها للريح لا تلوي على شيء، تاركة فلسطين لعصابات الغزاة الصهاينة، وللوعود الكاذبة للأنظمة العربية المتواطئة مع الصهاينة ومن خلفهم. وأكثر ما فعلته أسرتك بعد ذلك، بالإضافة إلى التفجع والتحسر العبثي على ضياع فلسطين، أنها أنجبتك أنت وإخوتك، لا لكي تحرروها بالطبع، فلو كان ذلك هو الهدف فلربما كانت قد تحررت منذ عقود، ولكن ربما لظنها أن تفريخ الكثير من البؤساء المشردين هو ضرب من ضروب النضال، أو ربما لزيادة عدد المسجلين في بطاقات إغاثة اللاجئين، لعل الأسرة الكريمة تحصل على المزيد من الرز والطحين والسمنة وحليب البودرة! 
ولكن للحق، وحتى أكون منصفًا، فإن كل تلك الأفكار الصادمة لم تبدأ بالانهمار على رأسي، إلا بعد كارثة أوسلو. فقبل تلك الخيانة التاريخية التي لا تغتفر، كنت، كفلسطيني، أحس بشيء من الزهو فيما لا أخفيكم. فقد كنت أنتمي، أو أظن على الأقل أنني أنتمي إلى شعب مناضل بطل، لن يكل أو يمل حتى يحرر أرضه السليبة. لكن تلك الخيانة، وما أعقبها من خيانات وتنازلات، أماطت اللثام عن عيني، وجعلتني أدرك الحقيقة المرة. فالشعب الذي ترتمي قياداته في أحضان أعدائه، ويسكت عن تلك القيادات العميلة، ولا يثور من أجل إسقاطها، هو شعب لا يستحق الكثير من الاحترام في أضعف الإيمان، حتى لا أقول إنه لا يستحق الحياة! 


صحيح أن المقاومة الإسلامية في غزة، ممثلة بحركة حماس، قد تشكل بشكل أو بآخر نقطة مضيئة وسط كل تلك العتمة، لكنها، فيما يقول لي حدسي، المدعم بكم وافر من المؤشرات والقرائن، تسير إلى ذات المصير الأسود المخزي الذي انتهت إليه حركة فتح. وستذكرون ما أقول لكم، فمن يرضى أن يفك الزر الأول من قميصه بذريعة الضغط، سرعان ما سيجد نفسه وقد خلع سرواله التحتي! 


وعندما تكون قد ابتليت بأنك قد ولدت فلسطينياً، ستضطر إلى أن تتجرع ما لا حصر له من الأكاذيب، بل أن تصبح جزءا من تلك الأكاذيب، والأرجح أن تسهم في ترويجها، إذ سيزعم كثير من الأوغاد الذين أسهموا في بيعك وبيع قضيتك أنهم يحبونك، وأنك واحد منهم، وستجد نفسك مجبرًا على أن تتعامل معهم على هذا الأساس، بالرغم من ثقتك بكذبهم وخيانتهم وكراهيتهم لك وتمنيهم بأن تتلاشى من الوجود، حتى لا يذكرهم وجودك بجريمتهم، فتأخذهم ويأخذونك بالأحضان، وتكذبون سوية حول حبكم المزعوم لفلسطين والرغبة في تحريرها! 


والكلام لا يطال أبناء فلسطين فحسب، فليس هناك في ملتي واعتقادي ما يسمى بفلسطين، ككيان سياسي، يمكن أن أعترف به وبشرعيته. ففلسطين هي أرض إسلامية يقع عبء تحريرها على كل مسلم، لذلك فإن تلك الاتهامات بالتفريط والتخاذل وبيع فلسطين وخيانة قضيتها تمس كل المسلمين. 


المفارقة العجيبة أن ما فعله العربان بأهل فلسطين بات يحدث لهم تباعا، وكأن العدالة الإلهية شاءت أن يذوقوا من نفس الكأس المر الذي أذاقوهم إياه. ولا أشك أنه سيأتي اليوم سيحس فيه كل عربي بما أحس ويحس  به الفلسطيني من قهر ووجع. فمن سكت على نكبة أخيه، إن لم يكن قد أسهم فيها، ثم بات يتلذذ بإذلاله والتنكيل به، لا بد وأن يعاني مثله ولو بعد حين، فالله يمهل ولا يهمل. 


سموا حديثي جلدا للذات، أو يأساً وسوداوية، أو غضبا وقهرا، لا يهم، لكنه يعبر فيما أظن عن الحقيقة المحزنة، وهي أن تحرير فلسطين هو آخر همنا. ولو كنا جادين في تحريرها، لما مضى على اغتصابها ما يقرب من سبعين سنة ونحن في سبات عميق. ولا تقولوا لي إنها قد خضعت لحكم الصليبيين عدة قرون ثم تم تحريرها، فهذا لا يغير من حقيقة انهزامنا وتقاعسنا شيئا، بل يجعلنا فقط نشبه أجدادنا الخائرين الذين سمحوا بأن تظل مغتصبة كل تلك القرون! 


بالمناسبة، أنا لا أبرئ نقسي من كل تلك الاتهامات، فأنا مجرم كغيري، فما الذي أفعله في كندا على بعد مليار ميل من فلسطين! وماذا فعلت من أجل تحريرها عندما كنت أعيش على بعد أميال قليلة منها! وما الذي يفعله الملايين من أبناء فلسطين ممن هم على شاكلتي من الهائمين في مشارق الأرض ومغاربها! نحن ندرس ونعمل ونلهو ونلعب ونجمع الأموال ونسافر ونحب ونتزوج ونتناسل ونعلق صور فلسطين ونزايد على بعضنا بحبها والانتماء لها، ليس أكثر، وكفى الله المتخاذلين من أمثالنا شر القتال. أما فلسطين، فلها الله، الذي أرجو أن يقتلعنا من جذورنا عما قريب بإذنه تعالى، ويستبدل بنا قومًا آخرين، يستحقون شرف تحريرها، بعد أن عز الشرف!

أضف تعليقك