• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

مقال خطير كتبه على عزت بيجوفيتش في سبتمبر١٩٦٧م  في لحظة من لحظات الأسى العارم الذى اجتاحه،  في أعقاب الهزيمة المنكرة للجيوش العربية أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية ؛ التى استطاعت احتلال أرض سيناء بأكملها وطرد الإدارة المصرية من غزة ورفح .. ثم زحفتت على سوريا لتحتل هضبة الجولان وتضم إليها مصادر المياه فى بحيرة طبرية.. وزحفت شرقا لتحتل الضفة الغربية لنهر الأردن مشتملة على القسم العربي من مدينة القدس، وبهذا أصبحت  الأراضى الفلسطينية بأكملها  تحت الاحتلال الإسرائيلي.

وبهذا التوسع الإسرائيلي الهائل فى الأراضى العربية أصبح الجيش الإسرائيلي مسيطرا على مواقع  حساسة  تهدد أمن الدول المجاورة كلها: فقد أصبحت قناة السويس تحت سيطرة إسرائيل وأصبحت دمشق على بعد أربعين كيلومترا من مرمي المدافع الإسرائيلية.. وأصبحت مياه نهر الأردن ودولة الأردن نفسها تحت الهيمنة الإسرائيلية.. وفى خطوة تالية زحفت إسرائيل على جنوب لبنان فاحتلته واستولت على مياه نهر الليطاني.. وشعرت إسرائيل أنها قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمها التاريخى فى إسرائيل الكبرى التى تمتد من النيل إلى الفرات.. وخاصة بعد أن تمكّنت من تحطيم إكبر قوة عسكرية مناوئة لها في العالم العربي.

هزيمة تاريخية منكرة لم يستوعبها عقل على عزت بيجوفيتش.. ولكنه تجرّعها  بمرارة شديدة وحسرة، وهو يتأمل أوضاع العالم الإسلامي المترَدِّية التعيسة.

 فى هذه الأجواءالمأساوية كتب بيجوفيتش مقالته .. ولكنه لم يشر فيها إلى هذه الهزيمة بالاسم ، لأنه كان يحلِّق بعيدا ليتبين الأسباب العميقة وراء الهزائم الكبرى فى العالم الإسلامي ليشخصها ويبحث لها عن حلول.

يقول بيجوفيتش: ليست مشكلة التخلّف من قبيل المشكلات  الأخرى فى العالم المسلم، كما أن الحديث عنها ليس من قبيل الترف  الفكرى ؛ ذلك لأن حالة السُّبات والركود التى تبدو مهيمنة -منذ زمن طويل- على مناطق شاسعة تمتد من جبل طارق غربا إلى أندونيسسا شرقا..

وتمثّل الكتلة السكانية الأعظم من المسلمين على هذه الكرة الأرضية- هي التى تفرض نفسها على التفكير.. ولكن أبرز صورة لهذه الظاهرة التى يسميها البعض بـليل الأسلام أو غروبه- قد ظهرت ابتداء من مرحلة الاستعمار الإنجليزى للهند.. وامتدت إلى نهاية  الحرب العالمية الأولى..  إلا أن جذور وبداية الأسباب الحقيقية لها تعود إلى ما هو أبعد من ذلك ، كما أن آثارها مازالت قائمة إلى درجة كبيرة حتى يومنا هذا.

يعترف بيجوفيتش أن أسباب نهضة أمةٍ مَا أو انحطاطها ، تكون دائما أسبابًا معقدة ومتعددة الأبعاد والجوانب؛  ومع ذلك فلا يبدو منها إلا جانب واحد  "برّانيّ" قابل    للإدراك المنطقي و التحليل ، بينما يظل جانبها الآخر "الجُوَّانِيّ"  غير خاضع للدراسة المادية ؛ لأنه كامن فى قلوب  البشر وإراداتهم.

فما الأسباب الكامنة التى جعلت ينابيع الحياة والإرادة والعلوم تنبع من أرض مصر القديمة  وبلاد أخرى كثيرة ؟ .. وفى أوربا وأمريكا حديثًا كما نشهد اليوم..؟  فى الوقت الذى تعيش وتموت أجيال لا حصر لها من الناس فى مناطق أخرى من العالم ؛ تظلّ تدور حول نفسها  لتستقر فى مجاهيل التاريخ..؟!

 و ما هو السرّ الذى يجعل شعبا يكتشف ذاته فجأة ويتحول إلى مهدٍ للعمالقة  والشجعان  والرجال البارزين في كل علم وفن ، بينما تظل شعوب أخرى -تعيش فى ظروف مشابهة- تطلع عليهم الشمس نفسها وتغرب ، ومع ذلك تبقَى مستنقعًا آسنًا من الركود..؟

عادة ما  تدور حوارات الناس -تفسيرا لمشكلة التخلف فى بلاد المسلمين-  حول: أن العلة فى ذلك تُعزى الى الحكام والمؤسسات والظروف الأقتصادية .. وأمِّية الشعوب .. وهلُمَّ جرًّا..!  أو أن الشعوب غير متعلمة ، ولذلك تحتمل طغيان الحكام وأن هؤلاء الحكام أنانيون ؛ ولذلك لا يعملون على تعليم شعوبهم .. وهكذا تختلط الإسباب والمسببات فى الأذهان.. ومن ثَـمّ وجَبَ علينا أن نسأل:  إذن.. أين السبب وأين النتيجة..؟

من استعراضنا لتاريخ الغزوات الكبرى التي تعرّض لها العالم الإسلامي نستطيع أن نرى ونتفق مع تحليلات و استنتاجات بيجوفيتش: أن الغزو المغولي البربري لبغداد عاصمة الدولة العباسية ، كان أول وأكبر غزوة أصابت الدولة في مقتل؛ فقد مسحتها من الوجود تماما وحولتها إلى خرائب ، ثم تعزّز هذا الدمار الشامل بالغزو الصليبي الذى اجتاح العالم الإسلامي ، ثم الاستعمار الغربي ، الذى مازلنا نعاني من آثاره إلى اليوم ..

صحيح أن العالم الإسلامي لم يستسلم للهزائم  ولم يكن طول الوقت جثة ميتة، وإنما كانت هناك ردود فعل هائلة وناجحة في محاربة المغول والصليبيين والاستعمار الغربي .. بل استعادت الدولة الإسلامية  كثيرًا من حيويتها ، وبأسرع ما يتخيل البشر ، فقد سقطت بغداد في فبراير سنة 1258م ، ولكن سرعان ما جاء رد الفعل من مصر سنة 1260م، من بقعة أخرى فى أرض الإسلام .. استيقظت ونهضت ترد العدوان بإدراك كامل  أن الغزو المغولي كان يستهدف  تدمير الإسلام  و المسلمين بلا استثناء ، فكان رد الفعل على نفس المستوى من الشمول: فلم يتوقف المسلمون عند انتصارهم في معركة "عين جالوت" التي سحقوا فيها جيش المغول ولكنهم تتبعوا آثاره في معارك متواصلة ببلاد الشام حتى قضوا على آخر مغولي في قلاع دمشق.

 الغرض الأصلى من هذا المقال ، هو محاولة لاستخلاص إجابة عن السؤال .. من خلال استعراضنا لسلسلة من الأسباب : هل كان الأسلام باعتباره دينا وفكرا وفلسفة وأسلوب حياة لملايين البشر الذين يسمون بالمسلمين – هل كان أحد عوامل تخلف الشعوب الأسلامية.. ؟

أعلم أن هذا ما يزعمه كل أعداء الإسلام والمسلمين عبر التاريخ .. وأعلم أن هذه الفرية الظالمة كانت قد بدأت تنحسر وتذوب بقوة الانفجار الثوري الذى عُرف في سنة 2011م بالربيع العربي ، وعلى الأخص خلال الثورة المصرية التي ضُرب بها المثل في كل بقعة من بقاع الأرض . وكنت شاهدا  على ذلك  في أهم مؤتمر لكبار المفكرين البريطانيين ، تم عقده تحت قبة البرلمان البريطاني  يوم 30 مارس 2011م ، لمناقشة " التحولات الجذرية في العالم الإسلامي" بعد انطلاق الثورة العربية .

ولكن هذه الفرية [عن الإسلام]  لم تبلغ من الغُلُوِّ والبشاعة كما بلغت في تصريحات قائد الانقلاب العسكري في مصر-  الذي دأب على إطلاقها في كل مناسبة ، وترويجها أمام العالم ، وكأنه يمنح أعداء الإسلام والمسلمين السيف الباتر الذى يقطعون به رقاب المسلمين .. ومن ناحيته ذهب هو في حربه للشعب الثائر أبعد مما كانت تستطيعه أو تحلم به إسرائيل .. فقد استخدم جيش مصر ورجال أمنها في قتل المسلمين وحرقهم ، وقام بالسطو على السلطة الشرعية وفتح السجون والمعتقلات لتستوعب حتى الآن أكثر من ستين ألفا من المعارضين السياسيين لنظامه القمعي .. وقضى على الثورة التي كانت الأمل الأخير للشعوب المسلمة : أن تقوم بنهضة حقيقية ، وتتخذ مكانتها الصحيحة بين شعوب العالم الحرة والمتقدمة .

ولكيْ تدرك مدى تأثير هذا الموقف المدمّر والصوت الناشز الذى انبعث من قلب العالم الإسلامي  -ومن مصر بصفة خاصة-  ليقضي على البذور الفكرية التي بدأت تترعرع وتصحح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام والمسلمين في العالم الغربي ، كما قضت على أمل المسلمين في مستقبل أفضل-  لِكَيْ تدرك هذا لابدّ من إطلالة سريعة على مؤتمر البرلمان البريطاني الآنف الذكر:

كان المشاركون بالأبحاث نخبة من الخبراء والأكاديميين فى شئون الاقتصاد والمال والسياسة  والإعلام ، والدراسات الاستراتيجية..  أجمعوا في مؤتمرهم على الآتى:

أولا-    أن الثورات الشعبية فى العالم العربي  وفى مقدمتها مصر حدثٌ بالغ الأهمية.. ليس بالنسبة للبلاد العربية فحسب ولكن بالنسبة للبلاد المسلمة و دول العالم الأخرى.

ثانيا -  أن  هذه الثورات الشعبية استطاعت فى فترة زمنية قصيرة أن تقلب موازين القوى لصالح الشعوب ضد الدكتاتوريات الحاكمة التى سادت فى المنطقة زمنا طويلا حتى ظن الناس أنه وضع مؤبد لا فكاك منه.

ثالثا - أن قوة التغيير التى جلبتها رياح الثورة، هى قوة كاسحة يستحيل تعويقها أو التصدي لها.. وعلى الغرب أن يغيِّر مفاهيمه السياسية ويكف عن فكره السياسيي التقليدي فيسعى إلى إدارة هذه التغييرات أو السيطرة عليها لأنه لن يستطيع.. وعليه أن يحاول فهمها  ليتعايش معها.

رابعا – هذه الثورات سيكون لها أبلغ الأثر على المنظومات السياسية والاقتصادية  والمالية والاجتماعية فى المنطقة العربية ، وعلى مستقبل علاقات العرب بالعالم الخارجي بما فى ذلك إسرائيل.

خامسا – أن عنصر الشباب الفاعل فى تفجير هذه الثورات ظاهرة جديدة فى عملية التغيير التى جرت  فى المجتمعات الثائرة .. وأنها ظاهرة تحتاج إلى دراسات عميقة لأن الشباب يمثلون أغلبية كبرى فى المجتمعات العربية بخلاف المجتمعات الغربية التى أصابتها الشيخوخة.. وأن نشاطهم وفاعليّتهم وتوجّهاتهم سوف تحدد مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان فى بلادهم..

سادسا – أن تدعيم هذه الثورات والحفاظ على مكتسباتها يتطلب الانفتاح على نظم اقتصادية ومالية جديدة ليست هى بالضرورة النظم الاقتصادية والمالية التقليدية التى سادت فى العالم الغربي .

سابعا  – أصحاب هذا الرأى وهم من أبرز خبراء المال والاقتصاد عاشوا وعملوا سنوات طويلة فى قلب هذه النظم وكانوا من كبار المستشارين فى البنوك والمؤسسات المالية .. لديهم رؤي إقتصادية جديدة .. ويعتقدون أن المجتمعات الثورية  فى مصر وتونس والبلاد العربية الأخرى التى تسير فى طريق التغيير نفسه ، كلها أرض خصبة لتطوير منظومات إقتصادية جديدية غير تقليدية .

 ويدعّمون وجهة نظرهم بأن الخلفيات الثقافية لهذه البلاد ترتكز على الفكر الإسلامي ، الذى يعلى من قيم التكافل والتعاون ويرفض الديون المحمّلة بالفوائد المركّبة ، حيث الديون والفوائد هما الركيزتان الأساسيتان للمنظومات المالية فى الغرب.. وقد أدّيا إلى كوارث إقتصادية وأزمات.. تتفاقم  الآن بلا كوابح ؛ فهذه المنظومات المالية  أصبحت حياتها الآن تتعلق بقشّة إسمها: "كوانْتِتِيف إيزنــج"  (Quantitative Easing) وهو إجراء لجأت إليه أمريكا مؤخّرًا.. حيث  قامت بضخّ مليارات الدولارات فى البنوكِ لتحريك عجلة الاقتصاد المتأزّم .. ولكن لهذه الآلية آثار خطيرة قد تؤِدّى إلى انهيار النظام المالى الأمريكي انهيارا كاملا ..

هذا ما قاله المفكرون البريطانيون عن استشرافاتهم لمستقبل الثورة العربية ، وهذا ما اعترفوا به عن نظامهم الاقتصادي المتردّى ، وتكاد تلمس فيه تطلعا  لحلول جذرية في منظومة اقتصادية إسلامية -تأتى بها الثورة العربية- مبرّاة من الربا الفاحش ، الذى انتهى بهم إلى أزمات متلاحقة لا يجدون لها حلولًا في منظومتهم الغربية ..

 

 ونعود إلى مقالة على عزت بيجوفيتش  التى يقول فيها:

أول ما نلاحظه فى هذا المجال من الناحية التاريخية: أن الشعوب الأسلامية -فى غالبيتها– لم تكن متخلفة فى الماضى، وكانت –فى الوقت نفسه تمارس الإسلام عمليًّا فى حياتها.. وأما اليوم فأنها متخلفة ، ولكنها لا تتبع الأسلام بالمفهوم العملى .. إن التاريخ شاهدى لما قلته فى الشق الأول ، وأنا وأنتم ونحن جميعا شهود على الشق الثانى .

ثم يتابع فيقول: إن الإسلام مجموعة تعاليم حواها القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريف.. ولكن الإسلام عنوان لظاهرة تاريخية فى العالم الواقعى ، وعنوان لحركة بشرية أقامت  نظامًا  للقضاء وأنشأت مُدنًا ودُولًا  وحضارات.

فالإسلام إذنْ.. سواء باعتباره رسالة أو ظاهرة تاريخية  يرفض الركود والتخلف.. ولا يمكن أن يكون سببا لهما .

ولنتذكر بأن الاسلام قد اتُّهم بأنه "دين السيف" ودين أولئك " الذين لا يخضعون حتى فى صلاتهم " وأن هدفه السيطرة على العالم ، وليس تهيئة الإنسانية للمملكة الإلهية" و "أن الصوم فى الإسلام أقرب إلى نظام صارم منه إلى الزهد والخشوع" و "أنه دين أختلطت فيه القسوة بالرأفة والعبادة بالانغماس فى ملاذّ الدنيا"!

هذا الهجوم بغض النظر عن بواعثه ، فيه جانب من الحقيقة لأن الإسلام بالفعل ليس أحاديّ النظرة ؛ لذلك يصعب فهمه من جانب أصحاب النظرة الأُحادية: فهو يسعى إلى تحقيق عالمين : جوّاني وبراني ، أخلاقى وتاريخى ، هذه الدنيا والآخرة. لذلك يمكن تعريف الإسلام بهذه الثنائية ؛ فالإسلام  يتطلب الامتثال لله ، والعمل الصالح .. ولكن رسالته  و وسيلته لمجابهة الشر والبغْي والأعداء والأمراض وقلة النظافة والخرافة – هى الجهاد .

ومن الطريف أن يذهب الباحث الفرنسى "جاك رِيسْلَرْ" إلى أن الإسلام بُنى على ستة أركان – وليس على خمسة فقط – حيث يضيف الجهاد كَرُكْنٍ سادس للإسلام. ولاشك فى أن أوثق من فسر روح الأسلام هم المسلمون أنفسهم فى القرون الذهبية . و من هنا ستوضح الحقائق التى سنعرض لها أنهم أدركوا أن الإسلام يفرض على أتباعه تحرير العالم وتغييره ، وأن الإسلام ليس دعوة إلى الاستسلام السلبي باسم الواقعية المفروضة عليه من الخارج..!

 

ونتابع إن شاء الله في مقالة لاحقة ..

أضف تعليقك