أمرنا الله بالاقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21] ولا يكون الاقتداء إلا بدراسة سيرته صلى الله عليه وسلم، ومن أعظم وقائع السيرة النبوية قضية الهجرة النبوية، إذ يعتبر حادث الهجرة فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية، ولقد كان لهذا الحادث آثار جليلة على المسلمين، ليس فقط في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن آثاره الخيرة امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومصر، كما أن آثاره شملت الإنسانية أيضاً، لأن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس الحق والعدل والحرية والمساواة هي حضارة إنسانية، قدمت، ولا يزال تقدم للبشرية أسمى القواعد الروحية والتشريعية الشاملة، التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، والتي تصلح لتنظيم حياة الإنسان كإنسان بغض النظر عن مكانه أو زمانه أو معتقداته.
فسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تحد آثارها بحدود الزمان والمكان، وخاصة أنها سيرة القدوة الحسنة والقيادة الراشدة قيادة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وما نتج عن هذه الهجرة من أحكام ليست منسوخة ولكنها تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان ما دام حال المسلمين مشابهاً للحال التي كانت عليها حالهم أيام الهجرة إلى يثرب.
وعلى هذا فإن معاني الهجرة يمكن أن يأخذ بها المسلمون في زماننا هذا، بل إن الأخذ بها ضرورة حياتية، لأن الهجرة لم تكن انتقالاً مادياً من بلد إلى آخر فحسب، ولكنها كانت انتقالاً معنوياً من حال إلى حال، إذ نقلت الدعوة الإسلامية من حالة الضعف إلى القوة ومن حالة القلة إلى الكثرة، ومن حالة التفرقة إلى الوحدة، ومن حالة الجمود إلى الحركة.
وأما أسباب الهجرة النبوية، وكيف خطط لها الرسول الكريم، وما أهميتها، ومتى بدأ التاريخ الهجري؟
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشتد عليه أذى المشركين من مكة عرض نفسه على القبائل في موسم الحج وطلب منها ان تحميه وتناصره حتى يبلغ رسالة ربه ولهم بذلك الجنة واستمر على ذلك عشر سنين، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يجد من يجيبه حتى حج نفر من الخزرج من أهل المدينة، وكان جيرانهم من اليهود يحدثونهم عن مبعث رسول قريب ويتوعدونهم بأنهم سيقاتلونهم، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة : 89] ففرح هؤلاء النفر وقالوا: هذا النبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقوكم إليه فآمنوا به وبايعوه عند العقبة، فكانوا القدوة الأولى التي دفعت أهل يثرب للإيمان به ونصرته، وفي العام الثاني قدم اثنا عشر شخصا بايعوا الرسول الكريم صلوات الله عليه، على ألا يشركوا بالله ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم، ثم كانت بيعة العقبة الثانية، والتي فيها نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا هاجر إليهم، والسمع والطاعة في المنشط والمكره والنفقة في العسر واليسر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وان يقولوا الحق ولا يخشوا في الله لومة لائم، وأن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحمونه، وأنهم سيقاتلون الأحمر والأسود، وقد تنتهك الأموال ويقتل الأشراف وكل ذلك نتائج متوقعة لهم مقابل دخولهم الجنة الموعودة.
التخطيط للهجرة
أما التخطيط للهجرة، فعندما جاء الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم، كان أبو بكر رضي الله عنه قد علف راحلتين استعدادا لذلك، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة مقنعاً، حتى لا يعرفه احد، وأعدت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما الزاد، وشقت نطاقها وربطت به الجراب، ولذلك سميت ذات النطاقين، وانطلق الرسول الكريم عليه صلوات الله ومعه أبو بكر وذهبا إلى غار ثور ومكثا فيه ثلاث ليال، وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت معهما وفي النهار يخالط قريشا ليعرف نوايا كيدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى الغنم ويمر بها عليهما فيحلبان من لبنها، وكان ابن أريقط الدليل الذي أستأجره أبو بكر على موعد فأتى بالراحلتين فركبا وانطلقا إلى طريق الساحل، وسمع أهل يثرب بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا ينتظرونه كل يوم، ولا يردهم إلا حر الشمس، حتى كان ذلك اليوم الذي رآهم فيه رجل يهودي، وعليهما ثياب بيض، كساهما بها الزبير حين لقيهما في الطريق، فبشر ذلك اليهودي الأنصار بقدومه، وكان ذلك يوم الاثنين فوصل صلى الله عليه وسلم بسلامة الله وحفظه إلى المدينة المنورة.
أهمية الهجرة واعتماد التاريخ الهجري
وأما أهمية الهجرة في التاريخ الإسلامي، فإنها لم تكن مجرد نجاة من عدو او خروج من محنة، بل كانت فاتحة تاريخ جديد وابتداء وجود قوة مسلمة في الأرض، وصار التاريخ الهجري هو سمة هذه الأمة على مدار القرون، وكان ابتداء التاريخ الهجري عندما رفع لعمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه، صك مؤرخ في شعبان، فقال شعبان هذه السنة أم الماضية أم الآتية، فجمع الصحابة الكرام لوضع تاريخ يعرفون به الديون فاتفقوا على ان يؤرخوا لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقد كان من الآراء أن يؤرخوا بتاريخ الفرس او الروم او بمولده او بمبعثه او بوفاته صلى الله عليه وسلم.
دور الشباب في الهجرة
كان للشباب دور كبير تمثل فيما يلي:-
1- اسعد بن زرارة تحمل مسؤولية الدعوة في المدينة وانزل مصعب بن عمير عنده وكان من رجال العقبة الأولى والثانية والثالثة، واختاره بنو النجار نقيبا لهم وهو الذي وضح لقومه خطورة البيعة ليوثق العهد وكان اصغر المسلمين.
2- السبعون الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في العقبة نصفهم من الشباب كما ورد من في رواية عروة قال أربعون من ذوي أسنانهم وثلاثون من شبابهم.
3- الذين اختارهم صلى الله عليه وسلم لتنفيذ مخطط الهجرة كلهم شباب إلا كهل واحد هو أبو بكر وأولاده الثلاثة شاركوا في هذا الشرف.
4-عبد الله بن أبي بكر وصف بأنه "غلام شاب ثقف تحمل المسؤولية نقل الأخبار من قلب الخطر المحدق".
5- علي بن أبي طالب رضي الله عنه في العشرين من عمره ينام على فراش النبي صلى الله عليه وسلم وكان يعلم ان السيوف ستنهال عليه صباحا ويبقى في وجه الخطر يوزع الأمانات على أهلها.
6- عامر بن فهيرة يتحمل مسؤولية اقتفاء الأثر ويقدم الزاد للنبي صلى الله عليه وسلم ولصاحبه أبي بكر رضي الله عنه.
دور المرأة في الهجرة
وكما كان للشباب دور كبير في الهجرة، كان للمرأة أيضا دور كبير، ومن الأمثلة على ذلك:-
1- عائشة رضي الله عها كانت في الثامنة من عمرها إلا أنها كانت حمل الأمانة وتمت الهجرة ونقلت إلينا الأخبار رغم صغر سنها.
2- أم عمارة وأم منيع مع الذين حضروا العقبة الأولى والثانية وفتا بالبيعة وحضرتا المشاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال عن أم عمارة رضي الله عنها في معركة أحد (وما التفت يمينا ولا شمالا إلا وأنا أراها تقاتل دوني).
3- أسماء بنت أبي بكر تجعل نطاقها وعاء للطعام وتطمئن جدها بأن أبا بكر ترك مالا، وأبو جهل يضربها لأنها عندما سئلت عن مكان أبيها قالت لا أدري.
4- النساء فوق البيوت يتراءينه يقلن أين هو؟ ايهم هو؟
5-الجواري ينشدن:-
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
6- جوار من بني النجار يضربن بالدفوف، وهن يرددن:-
نحن جوار بني نجار يا حبذا محمد من جار
فخرج إليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أتحبونني)) فقالوا: أي والله يا رسول الله فقال: "أنا والله أحبكم".
أهم الدروس المستفادة من أحداث الهجرة
1- شرع الله الهجرة ليعبد المسلمون ربهم بأمان ويقيموا كيان دولة إسلامية مما هيأ لهم نشر هذا الدين.
2- الأخذ بالأسباب واخذ جميع الاحتياطات تشريعا للأمة وان ذلك لا يتنافى مع التوكل على الله والاعتماد عليه.
3- نوم سيدنا علي رضي الله عنه على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة يدل على إيمانه وشجاعته، وبدل على جواز خداع العدو فالحرب خدعة.
4- إن الله تعالى أجرى معجزات كثيرة على يد رسوله أثناء الهجرة لينصره ويمكن له من الأرض.
5- الدور الذي قام به سيدنا أبو بكر رضي الله عنه في الهجرة أثنى الله عليه في القرآن الكريم فقال {إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية والمهاجر من هجر المعاصي.
أضف تعليقك