• الصلاة القادمة

    العشاء 17:29

 
news Image
منذ ثانيتين

كلما حلَّ شهر الله "المُحرَّم" يتذكَّر المسلمون حادثة الهجرة النبوية التي كانت محطة تحول في تاريخ الإنسانية، وغيرت وجه البشرية؛ لأن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت هي الطريقَ الموصلةَ لإنشاء الدولة الإسلامية!!

والهجرة في سبيل الله سنة قديمة، فقد هاجر الأنبياء والمرسلون قبل النبي -صلي الله عليه وسلم- من أجل الدعوة إلى الله تعالى!! وعندما نطالع هجرة النبي محمد -صلي الله عليه وسلم- وأحداثها العظيمة نجد أنّ بها الكثير من الدروس العبر، ومنها:

1- التضحية: فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أُخرِج من بلده التي وُلد فيها، وشب وترعرع فى ربوعها، تاركا أهله وعشيرته، حتى قال وهو يودع مكة، والحزن يعلوه وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: "إنك لخير أرض الله، وأَحَب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خرجت".

وقد أعطى الصحابة رضي الله عنهم نماذج رائعة فى التضحية، كموقف أبى سلمة -رضي الله عنه- الذي خرج مهاجراً حاملاً معه زوجه أم سلمة وابنهما سلمة، فلما رآه بنو المغيرة بن مخزوم، قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فأَخذوا منه زوجه، فغضب لذلك بنو عبد الأسد، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها؛ إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسها بنو المغيرة عندهم، وانطلق أبو سلمة قاصداً المدينة، فمكثت أم سلمة سنة كاملة تبكي، حتى أشفقوا لحالِها، فخلوا سبيلها، وردوا عليها ابنها، ولحقت بزوجها في المدينة!!

ومن مواقف التضحية في الهجرة: موقف صهيب الرومي -رضي الله عنه- لما أراد الهجرة، قالت له قريش: أتيتنا صعلوكا لا مال لك، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ربِح البيع أبا يحيى!!

2- ومن الدروس أيضا: الأمل وعدم اليأس: فلقد مكث النبي -صلى الله عليه وسلّم- في مكة ثلاثة عشر عاما يدعو قومه، حيث لاقى الكثير من الاضطهاد والإيذاء، وتعرض أصحابه للتعذيب ففكر -صلى الله عليه وسلم- فى البحث عن حلول بديلة، فذهب إلى الطائف، باحثا عن أرض للدعوة، لكنهم أغروا به صبيانهم وسفهاءهم، فقذفوه بالحجارة، وأدموا قدمه الشريف -صلى الله عليه وسلم-، لكنه لم يتوقف عن الدعوة، فأخذ يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج، قائلا: هل مِن رجل يحمِلني إِلى قومه فإِنّ قريشا قد منعونِي أَن أُبلغ كلام ربي، حتى شرح الله له صدور الأنصار، فكانت بيعتا العقبة الأولى والثانية، وتهيئة الأجواء لإقامة الدولة الإسلامية!!

3- ومن الدروس المستفادة من الهجرة: التخطيط المتقَن، وتوظيف الطاقات، فمما لاشك فيه أن التخطيط الجيد، وتوظيف الطاقات، واستغلال القدرات المتاحة، يُعَدّ من أهم دروس الهجرة؛ فالصّدّيق رفيق السفر، والراوحل تعلف وتجهز قبل الهجرة بِسرية تامة، وعلي بن أبي طالب ينام فى فراش النبِي -صلى الله عليه وسلم- وعائشة وأختها أسماء -رضي الله عنهما- تقومان بتجهيز ما يحتاجه أبوهما فى الهجرة، وشقت أسماء نطاقها، فسميت بذات النطاقين؛ وعبد الله بن أبى بكر غلامٌ ثَقِفٌ لَقِنٌ، يبيت عندهما ثم يعود قبيل الفجر، فيصبح مع قريش بمكة يسمع ما يقوله المشركون، حتى يأتيهما بِخبرِ ذلك حين يختلط الظلام، وكان الراعي عامر بن فهيرة يسلك بقطيعه طريق الغار؛ لِيُزيل آثار الأقدام، ثم يسقي النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وصاحبَه مِن لبن غنَمِه، وكان عبد الله بن أريقط هاديا، وهو مشرك لكنه كان مؤتمَناً فاتخذ طريقا غير الطريق المعهودة!!

4- ومن دروس الهجرة: التوكل على الله؛ فقد وصل المشركون إلى الغار ووقَفوا على شفيره، و خاف الصدِّيق على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من أذى قريش, وقال: يا رسول اللَّه، لَو أَنّ أَحدهم نظَر إِلَى قَدميه أَبْصرَنا تَحت قَدميه، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال له في ثبات المؤمن: "يا أَبا بكرٍ، ما ظنك باثنين الله ثالِثهما"!!

5- ومن الدروس المستفادة من الهجرة: أن الصبر واليقين طريق النصر والتمكين، فأصحاب الرسالات لا بد أن تواجههم المصاعب والمتاعب والمحن والابتلاءات, وعندما سئل ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أَيُّ الناسِ أَشد بلاء ؟ قال: "الأَنبياء, ثم الأَمثلُ فالأَْمثل, فيبتلى الرجل على حسب دينه, فإِن كان دينه صُلبا اشتدّ بلاؤه, وإنْ كان فِي دينه رِقّة ابتُلِي على حسب دينه, فما يبرح البلاء بِالعبد حتى يتركه يمشي على الأَرضِ ما عليه خطيئة".

فبعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء قضاها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بمكة هيأ الله تعالى المدينة لإقامة الدولة الإسلامية!!

ولقد ثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه على أذى قريش وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطمئنهم بأن النصر قادم.

عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو متوسد بردة له فِي ظل الكعبة، فقلنا: أَلا تستنصر لنا، أَلا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له فى الأَرضِ، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشارِ، فيوضع على رأْسه، فيجعل نصفينِ، ويمشط بأَمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلِك عن دينه، والله لَيُتِمّنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكِب من صنعاء إِلى حضرموت، لا يخاف إِلا الله، والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون".

6- ومن الدروس المستفادة من الهجرة: الثقة بالله جل وعلا، فلا يجوز لمؤمن رضي بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبحمد -صلي الله عليه وسلم- نبيا ورسولا أنْ ييأس مهما كانت الظروف، فقد كان سراقة بن مالك فى بداية أمره يريد إلقاء القبض على النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبِه ويسلمه للمشركين،كي ينال الجائزة التي رصدتها قريش، وهى مائة ناقة، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول له: ارجع يا سراقة ويكون لك سواري كسرى!!  وإذا بالأمور تنقلب رأساً على عقب، ويصبح يرد الطلب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فجعل لا يلقى أحداً من الطلب إلا رده قائلا: كُفِيتم ما ههنا، قد كفيتم ما ههنا، فكان أول النهار جاهداً على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان آخر النهار مدافعاً عنه، فسبحان مغير الأحوال!!

 لقد كانت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة أعظم حدث حوَّل مجرى التاريخ، وغيّر مسير الحياة ومناهجها التي كانت تحياها، بل كانت إيذانا باستلام قيادة البشرية للرسالة التي أرسلها الله إلى البشرية والتي تنتقل من نبي إلى نبي، ابتداء من سيدنا نوح الذي حمل الرسالة مع أولاده بعد الطوفان، لتصل إلى أبي الأنبياء إبراهيم، ثم إلى موسى وعيسى عليهما السلام، إلى أنْ وصلت أخيراً إلى مسك الختام "محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمته.

أضف تعليقك