لا تحتاج الأنظمة السلطوية إلى أكثر من معارضةٍ مفتتةٍ، ومنقسمة على نفسها، من أجل الاستمرار في السلطة. واستمرارها هذا، وإن كان يستند إلى القمع والقهر أكثر من أي شيء آخر، يكتسب قوة دفع متواصلة، باستمرار حالة التخبط والفشل التي تعيشها المعارضة. وهو وضع يزداد سوءاً كلما طرحت المعارضة، من دون أن تدري، طوق نجاة للمستبد، يمكن من خلاله إطالة أمد استبداده.
شيء من هذا القبيل يجري الآن في صفوف المعارضة المصرية التي يترواح أداء فصائلها، منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013، ما بين المراهقة السياسية من جهة، والتناحر والتلاسن والانقسام من جهة أخرى. وينضوي تحت الأولى ما طرحه قبل أسابيع عصام حجي، المستشار العلمي السابق لرئيس الجمهورية المؤقت، عدلي منصور الذي لعب دور "المحلّل" للانقلاب العسكري في مصر عام 2013، تحت ما تسمي مبادرة "الفريق الرئاسي 2018"، والتي أعلن عنها في أحد البرامج التلفزيونية، قبل أن ينشر ملامحها العريضة على صفحته على "فيسبوك". لن أخوض في نيات حجي وهدفه من إطلاق مبادرته، وإنما سأركز على مضمون المبادرة، وما تهدف إلى تحقيقه، وما إذا كانت تستحق أخذها على محمل الجدية أم لا.
تتضمن المبادرة أهدافاً وشعارات عامة، لا تخلو من رومانسية واضحة، حيث تستهدف "محاربة الفقر والجهل والمرض، ويكون العدل والتعليم والصحة الأساس لتحقيق طموحات المصريين في أن تصبح مصر دولةً مدنيةَ ذات اقتصاد قوي، تستطيع من خلاله أن تحفظ كرامة الجميع". وعن كيفية تحقيق هذه الأهداف، يطرح حجي تشكيل "فريق رئاسي"، من أجل خوض الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها عام 2018. ويشير إلى أن مبادرته سوف "تنسق مع جميع أطراف القوى المدنية القائمة حالياً، للتوافق على أن تكون المحاور المذكورة أعلاه على رأس مهام الفريق الرئاسي المتفق عليه لخوض انتخابات الرئاسة في أقل من عامين حتى 2018، كما سيتم أيضا ترشيح تشكيل وزاري معلن مرافق للفريق الرئاسي كجزء من المبادرة".
أثارت مبادرة عصام حجي ردود فعل واسعة بعد صدورها، وانقسمت الآراء حولها إلى فريقين، الأول متحمس لها، ويراها تستحق النظر والتعامل معها بجدية وعدم رفضها بشكل مبدئي، وذلك وفق قاعدة "ليس في الإمكان أفضل مما كان". وينطلق هذا الفريق من أن المبادرة تمثل الطريق الأكثر واقعيةً للتعاطي مع النظام السلطوي القائم في مصر، وذلك من خلال اللعب بأدواته نفسها. أما الفريق الثاني فقد رفض المبادرة، سواء بشكل مبدئي، كونها لا تنسجم مع طموحاته، ولا تحقق أهدافه، أو بشكل موضوعي، باعتبارها غير واقعية، وأنها لن تغير كثيراً من الأوضاع، بل قد يستغلها النظام الحالي، لكسب شرعية ناقصة.
تواجه المبادرة أربع مشكلات رئيسية، بشكل يفقدها مبرّر طرحها ويقلل جدواها. يتعلق أولها بشرعية الطرح. فإلى أي شرعيةٍ تستند المبادرة ومن طرحها؟ فإذا كان من حق حجي، باعتباره مواطناً مصرياً، أن يطرح ما يشاء من أفكار ومبادرات لحلحلة الوضع الراهن في مصر، فإن المبادرة، بوصفها وثيقة سياسية، تفتقر لأي دعم أو قبول أو تأييد من القوى السياسية المختلفة التي أبدى معظمها تحفظه وتوجسه منها، وكأنها فخ منصوب لهم. ناهيك عن رفض بعضهم أن تأتي هذه المبادرة من شخصٍ كان، ولو رمزياً، ولكن سيسجّله التاريخ، جزءًا من نظام "3 يوليو" الذي أغلق المجال العام في مصر، وأمّم الحياة السياسية، وارتكب من المجازر ما لم يرتكبه المحتل البريطاني خلال سبعة عقود، وهو ما يطعن في مصداقية الرجل السياسية، ويجعل مبادرته تبدو كأنها محاولة لإعادة تسويق نفسه وتقديمها للجمهور.
ثانيها، رومانسية الطرح وسطحية المضمون. يغلب على لغة المبادرة ومضمونها الطابع الرومانسي السطحي الذي لا يدرك حجم المأساة السياسية والاجتماعية التي تعيشها مصر منذ أكثر من ثلاثة أعوام. فالمبادرة تتحدث وكأننا لا نزال نعيش في عصر مبارك الذي شهد مبادرات وتحركات عديدة خلال نصف العقد الأخير من حكمه، حتى جاءت ثورة يناير، لكي تهيل التراب على كل هذه المبادرات. وبافتراض أن النظام الحالي لن يقمع من يشاركون في هذه المبادرة، فإنه على يقينٍ بأنها لن تنجز شيئاً مما تطمح إليه، بسبب عموميتها وسطحيتها الشديدة.
ثالثها، السقف المنخفض للمبادرة. من الواضح أن المبادرة لا تهدف إلى تغيير النظام الحالي أو تحدّيه. بل على العكس، هي تقع ضمن قواعد اللعبة التي وضعها النظام السلطوي، وتلعب وفق شروطه. لذلك، لم تتعرض لقضايا كثيرة ملحة، واضطرت للقفز عليها، مثل كيفية التعاطي مع العسكر وموقعهم في الحياة السياسية، وملف المتورّطين في دماء مئات من المصريين، وهل ستتم محاسبتهم أم لا، وكيفية تحقيق المصالحة الاجتماعية، وإنهاء حالة الاحتقان الحالية. والأهم كيفية إعادة دمج من تم إقصاؤهم سياسياً طوال الأعوام الثلاثة الأخيرة. وهي ملفات لا يمكن لأحد القفز عليها، لو أراد أن يحقق تغييراً حقيقياً، وليس مجرد مناوشة النظام الحالي.
رابعها، معضلة التنفيذ. يرى حجي أن تنفيذ أهداف المبادرة سوف يتم من خلال "فريق رئاسي". وحقيقةً، لا أدري ماذا يقصد؟ فهل يقصد أن هذا "الفريق الرئاسي" سوف يخوض الانتخابات الرئاسية في 2018 مجتمعاً، أم من خلال شخص يمثله؟ وإذا كان الأمر كذلك، فمن هو هذا الشخص، وإلى أي الفصائل سوف ينتمي، وكيف سيتم اختياره، وما هي الكتلة الشعبية التي يمكن أن تدعمه؟ وبافتراض أن النظام الحالي سوف يسمح لهذا "الفريق الرئاسي" أن يتشكّل، ما هي خلفياته وانتماءاته السياسية والإيديولوجية؟ وهل هناك مجال أصلاً كي يلتقي هذا الفريق علي هدف واحد؟....إلخ.
أسئلة كثيرة تجعل من مبادرة عصام حجي مجرد حلم رومانسي صعب التحقّق، بل سيكون بمقدور النظام الحالي توظيفها من أجل شرعنة ممارساته السياسية، وهي حتما سوف تساعدة في إيجاد "كومبارس" جديد، ينافسه ظاهرياً في مسرحية هزلية، تُسمي مجازاً "الانتخابات"، على غرار ما حدث المرة الماضية.
أضف تعليقك