باتت الآمال معقودة على أن يطوي عبد الفتاح السيسي صفحته بنفسه، ويجنب البلاد "المجهول" الذي يتخوف منه كثيرون، وإن كان هناك من يرون أن "المجهول" ومع ما يثيره من مخاوف، هو أفضل من أن يستمر هو في منصبه!
أصوات دولية، وإقليمية، بل وداخل دوائر الانقلاب داخلياً تدعو السيسي للاكتفاء بهذا القدر، والإعلان من الآن أنه لن يترشح للانتخابات القادمة في سنة 2018، وهي أصوات وصلت إلى أذنيه، فأصابته بالإحباط إلى درجة أنه فضفض مع رؤساء تحرير الصحف بكلام فهم منه أنه ليس على ما يرام، وبدأ لأول مرة يشعر بالملل، مثل قوله إن المقاتل عندما يشعر أن شعبه قد مل منه فإنه يتوقف عن القتال!
دعك من ظاهر النص، لأن هذا سيقودنا لسؤال عن الحروب التي خاضها في تاريخه العسكري كله، حتى ينتحل صفة "المقاتل"، وهو الذي لم يخض حرباً ومع ذلك منح نفسه أعلى رتبة عسكرية، لم يحصل عليها كثير ممن شاركوا في حرب أكتوبر المجيدة، فرئيس أركان هذه الحرب لم يحصل سوى على رتبة الفريق، وهو سعد الدين الشاذلي، في حين أن من رأى الحروب "فيديو" ترقى لرتبة المشير!
باطن ما قال يكشف عن أنه "مأزوم"، وقد انفضت من حوله، القوى السياسية، التي بايعته وقامت بالنفخ فيه لتجعل منه عبد الناصر، وإذ جهر البعض بإعلان موقفه، وإعلان ندمه، فإن هناك من يخافون من الشماتة فيهم، لدرجة أن يقول أحدهم في مجلس خاص أنه لولا شماتة الإخوان لوقف في ميدان التحرير وضرب نفسه بالحذاء، وهناك من كانوا أشجع منه وأعلنوا بدون خوف من شماتة أنهم نادمون على ما فعلوا، إلى حد أن ناشطة سياسية دعت أن يكون قد داسها قطار الصعيد، قبل أن تتظاهر في ميدان التحرير ضد الرئيس محمد مرسي، أو للتفويض، كما دعت أن تكون يدها قطعت قبل أن توقع على استمارة حركة تمرد!
شعبية السيسي انخفضت، لكن ليس هذا ما يقلقه، فقد وقف على هذا بنفسه، وتقارير حملته الانتخابية التي ساهمت فيها الأجهزة الأمنية قالت إن 70 في المئة من الشباب قد أداروا ظهورهم له، وبعزوف الناس عن الانتخابات الرئاسية فقد كان الأمر واضحاً أمامه، فحتى دولة مبارك لم تتحمس له، وحتى أعيان الريف ووجهاء القبائل الذين يرون أن دورهم لابد أن يكون بجانب السلطة أي سلطة، لم يجدوا في عبد الفتاح السيسي هذا الشخص الذي يملأ الكرسي، ويليق بالمنصب، ربما رأوا في الفريق أحمد شفيق أنه المرشح الأفضل فاحتشدوا خلفه!
وإذا كان المواطن البسيط المؤيد للانقلاب العسكري قد شعر بخيبة الأمل في ولاء السيسي وانحيازاته، وتجلى هذا في المقارنة بين موقفين: فقد رفع الدعم الجزئي كأول قرار له عن الفقراء، وفي المقابل أسقط ضرائب بأكثر من أربعة مليارات جنيه عن رجل الأعمال نجيب ساويرس، فإن النخبة السياسية ظلت معه، إلى أن كانت الدعوة لجمعة الأرض!
لم يكن السيسي قلقاً لانفضاض الناس من حوله، فقد كان يجد هذه النخبة عبئاً عليه ويريد أن يصنع نخبته من أناس ليست لديهم خلفيات سياسية أو مرجعية فكرية، ويكتفي بجانبها بالمثلث الذي يهتم به ويتمثل في الجيش والشرطة والقضاء بجانب التأييد الإسرائيلي له، لكن ما أقلقه هو توقيت هذا النزوح من معسكره، فقد جاء في وقت حرج بدأت فيه الأصوات خارجياً تطالبه بعدم الترشح لفترة جديدة، وهي أصوات وإن لم تكن رسمية، إلا أنها بدت كما لو كانت تعبيراً عن السلطة الرسمية، إقليمياً ودولياً!
إن السيسي هو الخيار الأفضل من حيث الأداء لقوى الاستعمار القديم، وقد تماهى مع نتنياهو إلى درجة التوحد بدون خجل أو وجل، وبدون خوف من شعب أو ملامة من تاريخ، لكن تكمن مشكلته في أنه فشل في السيطرة، مع أنه تم غض الطرف عن استباحة الدم المصري، الذي أوغل فيه بعنف، وبدأ الخوف من القادم، وكل سياساته تجعل حكمه على "كف عفريت"!
لقد توقف الحراك السياسي، وتوقفت المظاهرات، مع تزايد الخوف من الغد فلا أحد يستطيع التنبؤ بما يمكن أن يحدث غداً، والأزمة لم تعد مع التيار الإسلامي وحده، والذي بدا أنه ضعف من فرط الضربات الأمنية المتلاحقة، لكن الغضب المكتوم الآن بطول مصر وعرضها، ومن شرائح كانت مؤيدة لكل إجراءات 3 يوليو بما فيه التفويض بقتل الخصم الإخواني، ومع الشعور بضعف الثورة بدأ شعور آخر يتنامى بأنها قد تحدث فجأة، ولن تتم السيطرة عليها هذه المرة، ولن تكون مسالمة لو قامت، والاستقرار هو المطلوب لمصر، فهي ليست سوريا!
إن مشهداً واحداً بدا فيه من ملامح الثورات، التفكير فيه لابد أن يقلق "الراعي الأمريكي"، عندما احتشدت الجماهير في اتجاه السفارة الإسرائيلية بالقاهرة وتسابق الشباب في تسلق البناية على ارتفاعها وإنزال العلم الإسرائيلي، فالثورة الموغلة في السلمية دب فيه الحماس الثوري في التعامل مع السفارة الكيان، فماذا لو قامت ثورة من المؤكد أنها ستزيح من طريقها كل دعاة السلمية، والدوائر الإقليمية كانت في عداء مع ثورة يناير مع سلميتها فماذا مع ثورة استوعبت كل أخطاء الثورة الأولى ونقاط ضعفها، التي مكنت خصومها منها!
القوى الراعية للانقلاب، إقليمياً ودولياً، تجد في السيسي عالة عليها، فحتى الدعم المالي على كثرته، لا يبدو أنه يذهب لمصارفه الحقيقية بما يمكن من انتزاع فتيل الغضب، وهذه الدوائر لن تستطيع أن تنفق على حكم فاشل ولا أمل في نجاحه للاعتماد على نفسه، وقديماً قيل: "خذ من التل يختل"، والسيسي وإن كان يعلن لها أن البديل له هم الإخوان أو الفوضى، فهى لديها بدائلها التي قد يصلح أن تدفع بها الآن في انتقال هادئ للسلطة، قبل ألا يكون هناك آن، فقوى المعارضة التي كانت تقف خلف البرادعي وتحتمي في شرعيته الدولية، عندما قامت ثورة يناير تنكرت له جميعها بما في ذلك الشباب، فكل وقت وله أذان كما يقول المثل المصري، وقد يكون غاية ما يطلبه التيار الإسلامي في مصر الآن هو "سادات جديد"، يمد الجسور، ويفرج عن المعتقلين، ويسمح بحرية الحركة، لكن إذا قامت الثورة، فلن يقبل أحد بالدنية في أمره!
يبدو ما سبق منطقياً، لتعزيز خيار تنحي السيسي عن الحكم، والذي بدا متخوفاً من فكرة الانتخابات الرئاسية، فكانت الدعوة لتعديل الدستور بما يسمح بزيادة مدة الرئاسة إلى ست سنوات بدلاً من أربع سنوات، وربما انتبه إلى أن هناك نصاً دستورياً يحول دون ذلك، ويمنع تعديل النصوص الدستورية الخاصة بالحريات وبالانتخابات الرئاسية، فتفتق الذهن المأزوم عن فكرة جمع توقيعات لـ (40) مليون مصري على اقتراح امتداد دورة الرئاسة إلى ثماني سنوات، وهي الفكرة التي في طريقها للموت الآن، فقد تحولت إلى مادة خام للسخرية من هذا الحكم "العنين"!
لكن هل يفعلها السيسي ويقرر عدم الترشح في 2018؟!
بعض التقارير الصحفية قالت إنه يفكر في هذا، وللأسف أنها صبت في اتجاه تبرير تهدئة الحالة الثورية، تماماً مثل ما كان يعلن القيادي الإخواني يوسف ندا عند كل مناسبة ثورية من أنه تلقي اتصالات من ضباط بالجيش قالوا أنهم أوشكوا على الانقلاب على السيسي، وفي مناسبة ذكرى مذبحة رابعة هذا العام اختفى وظهرت وكالة الأناضول بخبر تبين كذبه بعد ذلك، وهو أن الأمم المتحدة طلبت بمحاكمة الجناة الذين ارتكبوا المذبحة.
السيسي لا يملك ترف التنحي أو العدول عن الترشح في الانتخابات القادمة، والحلفاء بطبيعة الحال لا يديرون عملاءهم على قاعدة: "افعل ولا تفعل"، ولكن عن طريق رسائل، وقد وجهت له قبل الانتخابات رسالة من حلفائه الإقليميين بأنهم يتمنون أن يستمر وزيراً للدفاع ليكون موقعه الدفاع عن الأمة العربية كلها، لكنه فكر وقدر وتجاهل الرسالة!
السيسي قتل الآلاف، والقتل جريمة لا تسقط بالتقادم، ولا أحد يملك له الضمان بالحماية، وقد ضمن المجلس العسكري حماية مبارك، لكن في مواجهة غضب الثوار تم القبض عليه وتقديمه للمحاكمة، صحيح أنه حصل على البراءة، لكن ليس في كل مرة تسلم الجرة!
في حواره مع رؤساء التحرير سئل السيسي عن قرار اتخذه في حياته وندم عليه؟.. وقال إن هناك قراراً ندم على اتخاذه لكنه لن يصرح به الآن. ولا أظن أنه قرار زواجه، فكل من قرأ الإجابة علم أنه قرار خوض الانتخابات الرئاسية.. هل قصد قرار الانقلاب، وقد كان قبله في وضع أفضل مما هو عليه الآن؟!
الآن لم يعد يفيد الندم، فهو بما فعل ليس أمامه إلا معركة يخوضها على قاعدة: قاتل أو مقتول، فهو ليس الأقرب لبن علي، أو مبارك، أو حتى علي عبد الله صالح، وإنما هو امتداد لحالة القائد الليبي معمر القذافي!
هناك مثل مصري قديم يقول: "دخول الحمام ليس مثل الخروج منه"!
أضف تعليقك