• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بخُطبة الجمعة الموحدة، فإن مصر تكون قد قطعت شوطاً غير مسبوق في سياسة تأميم المساجد، ربما تكون به "رائدة" في هذا المجال، وهي المشغولة دائماً بالريادة، وإذا كانت انتقلت لغيرها في مجال الإعلام، فها هي تثبت أنها رائدة في مجال آخر، ولو كان مرتبطاً بالقمع والاستبداد!

ولا يغيب عن أي متابع، أن فكرة تأميم المساجد، وخنق الدعاة على المنابر، إنما هي ارتبطت بحكم العسكر، الذي استهدف منذ وقوع حركة ضباط الجيش في سنة 1952 تأميم الأرض ومن عليها، فبعد تأميم الصحافة، تمّ تأميم القطاع الخاص، وتأميم الحياة السياسية بتنظيم سياسي واحد، كانت هناك محاولات لتأميم القضاء، انتهت بخلق القضاء الموازي، والذي وصل إلى مرحلة العبث من خلال ما عُرف بـ "اللجان الإدارية ذات الاختصاص القضائي" التي غلت يد القضاء عن نظر قراراتها، ولم تنتهِ بالمذبحة الشهيرة للقضاة.

ولم يكن حكم العسكر جاداً في الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة، وإنما كان دائماً مشغولاً بتأميم الدين، والسيطرة على المساجد لصالح السلطة الحاكمة، وإذا كنا نستهجن الدعوة للملك وحاشيته وبطانته من فوق المنابر في مرحلة ما قبل حركة ضباط الجيش هذه، فلا توجد إجراءات في عهد حكومات ما قبل الحركة اتخذت للمصادرة والتأميم.

 

الخُطبة الموحدة، التي فرضها وزير الأوقاف الحالي، تقوم على أمرين: الأول على وحدة الموضوع، من يحث كونها خطبة واحدة في عموم القطر المصري. والأمر الثاني، أنها خُطبة مكتوبة، وهذا يمثل تطوراً لمرحلة البداية، فبعد يوليو 1952، عرفت مصر "الخُطبة الموحدة"، حيث كانت وزارة الأوقاف في بعض الفترات تفرض على خطبائها موضوعاً بعينه، وعلى الخطيب أن يعد عناصره، ويبحث في تفاصيله، وفي مذكرات الشيخ عبد الحميد كشك، ما يشير إلى هذا فقد فرضت الوزارة أهمية العمل في جني محصول القطن كموضوع على الخطباء، وكان لافتاً أن خطباء في الحضر وليس في الريف التزموا بموضوع الخطبة البعيد عن اهتمام المصلين!

 

ولم تكن قضية "الخُطبة الموحدة" في هذه الفترة مؤثرة، فلم تكن كل المساجد خاضعة لوزارة الأوقاف، فهناك المساجد الأهلية التي تدار بمعرفة من قاموا ببنائها، وهناك مساجد الجمعيات الدينية، وهناك خطباء الوزارة غير المنصاعين لأوامرها، وهؤلاء يتمّ استدعاؤهم للوزارة وللأجهزة الأمنية، إذا خالفوا التعليمات وانتقدوا السلطة، أو من دونها ووصل في عهد السادات أن وجهوا للشيخ كشك اتهاماً من خلال السؤال في التحقيقات نصه: لماذا تهاجم فوازير الفنانة نيللي؟.. التي كانت تقدمها عبر التلفزيون المصري في شهر رمضان. كما أن الشيخ نفسه زاره ضابطان من المخابرات في منزله في عهد عبد الناصر وطلبوا منه أن يكفر في خطبة الجمعة القادمة "سيد قطب"، وتم تركه بين الوعد والوعيد، ولما لم يفعل تم اعتقاله!

 

وعندما فكرت وزارة الأوقاف في عهد السادات في نقل الشيخ أحمد المحلاوي من مسجد القائد إبراهيم، بمحافظة الإسكندرية، إلى مسجد آخر، للتقليل من حجم شعبيته في هذا المسجد، طالبه المصلون بتقديم استقالته للوزارة، وقيام كل مصلٍّ بدفع جنيها كل أسبوع لتعويض راتبه، ويستمر في مسجد القائد، ما دفع الأوقاف للتراجع عن قرار النقل!

 

لا يختلف أحد، على أن عهد السادات، كان العصر الأكثر حرية بالمقارنة بعهد عبد الناصر، وعهد مبارك، وقد استمتع من يريد من الخطباء بجو الحرية هذا، وعرفت المنابر خطباء أحراراً، ولكن لأن "الحلو لا يكتمل"، فقد أخذوا حظهم من القمع عندما اعتقل السادات معارضيه من السياسيين واعتقل معهم هؤلاء الخطباء الأحرار!

وقد عرف عهد مبارك التوسع في ضم المساجد لوزارة الأوقاف، ومنع خطباء من إلقاء الخطب، سواء بالترقية كما جرى مع الشيخين عبد الرشيد صقر والمحلاوي، أو بالمنع الصريح كما في حالة الشيخ كشك، من أئمة الأوقاف، وغيرهم كان الأمر لا يستدعي أكثر من المنع بتعليمات أمنية.

 

وفي مواجهة عزوف الأزهريين عن العمل في مجال الدعوة، كان هناك تكليف بالتعيين الإجباري، في بعض السنوات، مع السياسة التي اتبعها وزير الأوقاف في عهد مبارك "محمد علي محجوب" بضم أكبر عدد من المساجد للوزارة.. وكثير منهم كان دون المستوى، فهجر الناس مساجدهم إلى دعاة غير أزهريين، مثل الشيخ فوزي السعيد، والدكتور عمر عبد الكافي، قبل أن يتم منعهما من الخطابة، ضمن سياسة التأميم في عهد مبارك، واشتراط الحصول على ترخيص بالخطابة، الذي كانت تمنحه وزارة الأوقاف لغير الخطباء التابعين لها كشرط لاعتلاء المنابر، وهو ترخيص أمني يجدد كل عام، أكثر منه دعوياً بتوافر مواصفات الخطيب في حامله.

 

وكان مبارك قد بدأ عهده بإقرار قانون يمنع على خطباء المساجد التطرق للقضايا العامة، ولنقد الحكومة وإدارتها وأعمال الموظف العام، ووضع عقوبة الحبس والغرامة على الخطيب الذي يخالف هذا القانون، لكنه لم يجد في نفسه حاجة إلى تطبيقه، فقد كان قرار أمني يكفي لمنع الخطيب من الخطابة، دون الحاجة لتفعيل هذا القانون!

وقد أنهى مبارك حكمه بفكرة الأذان الموحد التي تبناها وزير الأوقاف "محمد حمدي زقزوق"، والتي ظل ثلاث سنوات يستعد لها، لكن عملية ربط المساجد على مستوى القاهرة كنقطة بداية لنقل أذان الإذاعة قد تأخر حتى قامت ثورة يناير، وتم القضاء على الفكرة، فلم يتحمس لها أحد حتى من بين الذين ناصروها في عهد مبارك!

 

وفي أول جمعة بعد تنحي مبارك، عاد الأئمة الممنوعون إلى منابرهم، فعاد الشيخ المحلاوي لمنبر مسجد القائد إبراهيم، والشيخ فوزي السعيد لمنبر مسجده بشارع رمسيس، وخطب الشيخ حازم أبو إسماعيل هذه الجمعة بمسجد النور بالعباسية، قبل أن نعرف ما أطلقت عليه في مقال منشور "فوضى المنابر"، فقد صارت الخطب سياسية، وجزءاً من حالة الانقسام التي بدأت مع الاستفتاء على الدستور فالخطيب السلفي بالمسجد القريب من منزلي الذي لم يكن يتطرق لأي أمر فيه شبهة سياسية، ولم يدن مجزرة غزة، ألقى خطبة كاملة من ورقة، في الفقه الدستوري وكيف أن نعم في الاستفتاء على الدستور هي لله ورسوله، واختفى الدين وبرزت السياسة، فقليلاً ما كان يلجأ الخطباء إلى قال الله وقال الرسول!

 

ولا أنكر أنني شعرت بحالة من القلق إزاء هذا "التوظيف الحزبي" للمنابر، ولم يكن هناك رجل رشيد من بين الإسلاميين يدعو لوقف هذه المهزلة، التي انتهت بتولي الرئيس محمد مرسي السلطة، وربما لم يرد القوم أن يصدروا له حرجاً فتوقفوا، وهناك عدد من القضايا الأخرى تركوها لهذا السبب مثل مطالبتهم بالإفراج عن النساء المسيحيات التي قيل أنهن دخلن الإسلام وقام نظام مبارك بتسليمهن للكنيسة، ومن وفاء قسطنطين إلى كاميليا شحاتة!

 

ومع الانقلاب العسكري في 3 يوليو عادت سياسة تأميم المساجد من جديد، وفق العديد من الإجراءات التي بدأت بمنع صلاة الجمعة في الزوايا والمساجد الصغيرة لتمكين الأوقاف من السيطرة فلا يتشتت جهدها، وكذلك كانت هذه الإجراءات بتأميم مساجد الجمعيات، وانتهت بالخُطبة المكتوبة والموحدة، والتي تجعل من الخطيب مجرد جهاز تسجيل، أو قارئ للخطبة، وهو عمل يستهدف فضلاً عن تأميم المساجد لصالح "الدولة الفاشلة"، ورأسها يقدم نفسه باعتباره صاحب اجتهاد ملزم على أساس أنه المسؤول عن "دين المصريين"، فإن المستهدف أيضاً أن تفقد صلاة الجمعة أهميتها، ويفقد الدين معناه، من خلال الدعوة التي يتبناها عبد الفتاح السيسي بتجديد الخطاب الديني وهي التي لاقت تأييداً خارجياً، ومن واشنطن إلى تل أبيب!

 

ويكفي أن نعرف عنوان الخُطبة الأخيرة، حتى نقف على المقصود بتجديد الخطاب الديني، فمنذ نعومة أظفارنا يتم تلقيننا عبارة كانت تدون على الكراسات وفي كتب المطالعة وعلى جدران المدارس هي "النظافة من الإيمان"، فجاء عنوان الخطبة "النظافة سلوك حضاري"!

 

لقد غضب شيخ الأزهر، لأنه ظن أن "الخطبة المكتوبة والموحدة" هي فكرة وزير الأوقاف، واجتمعت هيئة كبار العلماء برئاسته ورفضت الفكرة، وأعلنت أن وعاظ الأزهر لن يلتزموا بها، وهو غضب في إطار الصراع القديم حول من صاحب المرجعية الدينية الرسمية: "الأزهر أم دار الإفتاء"؟ والذي بدأ بالخلاف بين شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق، والمفتي الدكتور سيد طنطاوي، وبين شيخ الأزهر طنطاوي، والمفتي نصر فريد واصل.

 

الآن استشعر شيخ الأزهر أن وزير الأوقاف ينافسه على الدور والمكانة، فكان غضبه، وربما لم يعلم أن دور وزير الأوقاف هنا أنه فقط يزيّن للسيسي سوء عمله ليراه حسناً، وقد جمعهما لقاء لمناقشة فكرة الخطبة الموحدة والمكتوبة، بما يشير إلى أن السيسي إن لم يكن صاحب الفكرة فقد تبناها وراقت له، وأعتقد أن رسالة بهذا المعنى قد نقلت لشيخ الأزهر ستدفعه للصمت!

 

من حسن حظ المسيحيين، الذين يشكون الاضطهاد لغياب مبدأ مساواة الكنائس بالمساجد، أن المساواة لم تطبق وإلا فرضت عليهم خطبة موحدة ومكتوبة في كنائسهم، ولو فكروا لتوقفوا عن الشكوى، ولرفضوا المساواة!

لو نظر المسيحي لبلوى المسلم لقبل يده وجهاً وظهراً.

أضف تعليقك