من مفارقات الأقدار أن تنتخب إسرائيل لرئاسة اللجنة القانونية بالأمم المتحدة، رغم أنها صاحبة التاريخ الطويل في ازدراء قرارات المنظمة الدولية وانتهاك القانون الدولي.
وذلك فضلا عن رفضها المستمر للانضمام إلى أي من معاهدات عدم انتشار الأسلحة النووية. وحين يتم ذلك في 13 يونيو بعد أسبوع واحد من ذكرى الهزيمة (في 6 يونيو 1967)، فتلك مفارقة لها دلالة رمزية أخرى، بحسبانها انتصارا إسرائيليا جديدا، أما أم المفارقات وأكثرها فجاجة فقد تمثلت في اشتراك 4 دول عربية في التصويت لصالح إسرائيل، كما ذكرت صحيفة «هاآرتس».
وقد عبر عن تلك الصدمة رسم كاريكاتوري تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي ظهر فيه بعض العرب يحملون العلم الإسرائيلي مع آخرين من الصهاينة، في حين وقف فتى عربي يتابع المشهد وقد أخفى عينيه بكفيه وهو منخرط في البكاء والنحيب.
الحدث الذي بدا عبثيا وصادما يعبر عن واقع يعكس جانبا من المتغيرات العربية التي أصبحت أخبارها تقف في الحلوق وترفع ضغط الدم، ليس عندي كلام كثير في فوز إسرائيل لأول مرة في تاريخها وتاريخ المنظمة الدولية برئاسة إحدى لجانها الأساسية الست، خصوصا اللجنة القانونية، إذ حين تصدت 109 دول لصالحها من بين 193 دولة في الأمم المتحدة، فذلك بمنزلة هزيمة حقيقية للدبلوماسية العربية. أما حين تصوت لصالحها أربع دول عربية، فتلك فضيحة تصيبنا بالخزي وتخرسنا إذا ما انتقدنا الدول الأخرى التي فعلتها، وهي تعلم أن إسرائيل المنتهك الأكبر للقانون الدولي في العالم.
ذلك أننا لن نستطيع أن نطالب الدول الأجنبية بأن تتضامن معنا وتتفهم قضايانا العادلة، في حين أن بعض الدول العربية تخلت عن التضامن والتفهم الذي ندعوهم إليه.
لم تعرف أسماء الدول التي صوتت لصالح إسرائيل، لكن عددها فقط الذي تواترت الإشارة إليه في بعض الصحف الإسرائيلية والعربية، ولم أفهم سر إخفاء تلك المعلومة لتجنب إحراج بعض الأنظمة، إلا أن الرأي العام العربي له حق في معرفة الدول التي فعلتها، وإذا كانت وسائل الإعلام حرصت على كتمان الأمر وتسترت على الفضيحة، فلا تفسير لذلك سوى أنها أصبحت بوقا للأنظمة يسهم في خداع الرأي العام وتجهيله بدلا من تنويره، وإذ لا يفاجئنا ذلك حين يتعلق الأمر بالأوضاع الداخلية لبعض الأقطار العربية، إلا أن الأمر لابد له أن يختلف حين يتعلق بمصير الأمة وقضيتها المركزية، التي سالت دماء آلاف الشهداء دفاعا عنها وذودا عن حياضها.
وإذ تركت المعلومة للتخمين والاستنتاج، فإن القرائن المتوافرة والسوابق قد تساعدنا على فك بعض غموضها، من تلك القرائن مثلا ما يرجح أن مصر بين الدول الأربع، فمعلوم ومعلن أنها صوتت في شهر أكتوبر من العام الماضي (2015) لصالح انضمام إسرائيل لعضوية لجنة الاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي، كما أنها صوتت في شهر سبتمبر الذي سبقه لصالح اختيار إسرائيلي نائبا لرئيس اتحاد دول البحر الأبيض لكرة اليد، أما تحديد الدول الثلاث الأخرى فليس مقطوعا به، وتتداول الدوائر الدبلوماسية في هذا الصدد أسماء إحدى الدول المغاربية ودولة أخرى خليجية وثالثة مشرقية.
لا أقطع بشيء مما ذكرت، ولكنها مجرد ترجيحات مبنية على قرائن أقواها ما خص الموقف المصري الذي تمتدحه الدوائر الإسرائيلية كثيرا في الآونة الأخيرة. إذ فضلا عن تصريحات السياسيين ما برحت تشيد بعمق التعاون الاستراتيجي بين القاهرة وتل أبيب، فإن معهد بحوث الأمن القومي بجامعة تل أبيب أصدر دراسة لأحد باحثيه هو الدكتور أوفير فينتر حول التغير الذي طرأ على مناهج التعليم في مصر للتعبير عن المتغير في اتجاهات الريح السياسية، ضرب الباحث مثلا بكتاب مقرر على طلاب الثانوية العامة حول «جغرافية العالم العربي وتاريخ مصر الحديث»، وكيف أنه تحدث بلغة مختلفة تماما مما تضمنه الكتاب ذاته في عام 2002، وحين اعتبر الباحث أن الكتاب إيجابي وباعث على التفاؤل والاطمئنان من جانب إسرائيل، فلك أن تتصور مضمونه في تناوله لمختلف عناوين الصراع ومفردات «القضية».
خلاصة الكلام أن تصويت الدول العربية الأربع لصالح إسرائيل في الأمم المتحدة، يعد إعلانا عن التحول الخطير الحاصل في علاقات الأنظمة العربية بإسرائيل، ومن الواضح أن الشق الغاطس في تلك العلاقات أكبر بكثير مما ظهر منها، وهو ما يوحى بأننا بصدد خرائط جديدة يعاد رسمها للمنطقة، بحيث تتوافق إلى حد كبير مع الرغبة الإسرائيلية التي أعلن عنها نتنياهو وتحدثت عن التطبيع مع الإقليم، مع تنحية الملف الفلسطيني جانبا، ذلك أن التطبيع يتحرك الآن بخطى حثيثة بعيدا عن الأعين وفي سرية بالغة، الأمر الذي يشكل واقعا جديدا لا ينتظر مفاوضات أو مبادرات، وذلك يستدعي السؤال التالي: إذ ما مضت بعض الأنظمة العربية في ذلك المسار، فكيف يكون رد الشعوب في هذه الحالة؟ ثمة سؤال آخر أتردد في طرحه هو: هل يمكن أن نقول الآن إن الربيع الذي هبت رياحه على المنطقة صار إسرائيليا أكثر منه عربيا؟
أضف تعليقك