بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.. وبعد..
فإننا إذ نهنئ أمتنا الإسلامية بمطلع عام هجري جديد- جعله الله عام خير وبركة ونصر وعزة- لنقف متدبرين في ذكرى هجرة النبي صلوات الله عليه، نأخذ منها العبرة والدرس، ونستمد منها الزاد لمواصلة الطريق إلى الله تعالى، على بصيرة ووعي ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [سورة يوسف:108].
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه موفقًا وملهمًا حين اختار حدث الهجرة مبتدأ للتاريخ الإسلامي، إذ كانت حدثا جللًا وحدًّا فارقًا في مسيرة التاريخ الإسلامي، بل الإنساني قاطبة. به قامت دولة الإسلام، تحمل رسالة الهداية إلى العالمين، وتقدم نموذج الرشد في شتى جوانبه إلى الدنيا على امتداد تاريخها.
فلولا الهجرة لظل المسلمون أفرادًا يمتازون بسلامة المعتقد، وعمق التربية، وتماسك البناء الاجتماعي، لكنهم - في أفضل حالاتهم- جماعة مطاردة، عرضة للتآكل والفتنة، تفتقد أفق المستقبل وسط الظلام، وتخشى الفناء في محيط متربص، وطغاة ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ [سورة التوبة:10].
والله تعالى جعل الهجرة نصرًا، وهو نصر خالص منه سبحانه وتعالى: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [سورة التوبة 40]. بالرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بكل أسباب النجاح في هجرته-مع ما كان من مكر الكافرين وتهديدهم له- فأجاد التخطيط لها، وأحاط بالأمر من جميع جوانبه، ثم التجأ إلى ربه متوكلاً عليه.
لقد جاءت الهجرة وتأسيس "الدولة الإسلامية الأولى" تتويجًا لمراحل من العمل التربوي والدعوي امتدت لثلاث عشرة سنة، وهي مراحل متدرجة، استهدفت منذ البداية التمكين للدين الخاتم، حتى يمكن إبلاغه للعالمين. وهي مهمة أرادها الله لرسوله منذ بدايات الدعوة، وكررها لترتكز في وعي الجماعة المؤمنة منذ مطلع تكوينها في سور القرآن المكي: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة سبأ: 28]. ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾[سورة الفرقان: 1]. ولم تكن تلك المهمة لتتحقق والمسلمون مطاردون ممتحنون، بلا نصرة، ولا قوة، ولا دولة؛ ومن هنا جاءت هجرة المؤمنين إلى الحبشة، لتظلَّ هناك جماعةٌ مؤمنة في منجاة من الطغيان الذي قد يقود إلى الهلكة. ومن هنا جاءت محاولة النبي صلوات الله عليه الهجرة إلى الطائف، فلما لم تتحقق هذه الغاية، لجأ إلى دعوة قبائل العرب إلى الإسلام وبذل النصرة له، وتحقيق المنعة، حتى يؤدي رسالة الله.
فلما أذن الله بنجاح المسعى إلى إقامة "دولة الإسلام الأولى"، كانت القاعدة الإيمانية قد استكملت الشروط الضرورية للحفاظ على تلك الدولة، والسير بها في طريقها لتحقيق غاياتها التي رسم القرآن الكريم ملامحها، وظلت آياته تقود مسيرتها، وتنظم خطوها. بعد أن تشكلت في صبر وأناة، واختُبرت في محنة وخطوب، وامتلكت القدرة على الصمود، والبصيرة في المنهج.
وكان المجتمع الإيماني المهاجر والمناصر ممثلاً لأطياف الأمة: رجالاً ونساءً، أشرافًا ومستضعفين، وأفرادًا وعائلات، تلك العائلات والأسر المسلمة التي قدَّمت أروع الأمثلة في ملحمة الهجرة نفسها؛ منها: أسرة أبي سلمة، وأسرة أبي بكر. ومنها أسر عديدة هاجرت إلى الحبشة في السنة الخامسة للبعثة، وظلت هناك نحو خمس عشرة سنة، في بلاد الغربة والوحشة، حتى عادت في أعقاب غزوة خيبر في السنة السابعة للهجرة.
والحمد لله أن ظلت تلك الأسوة الحسنة التي تقدمها الأسر المسلمة متواصلة على امتداد تاريخ الأمة، وفي أحلك ظروفها.
وقد سطَّرت النساء المسلمات صفحات من نور في دعم أزواجهن في المحن المتعاقبة، فحفظن بيوتهن، وربين أولادهن، فأحسنّ التربية، وكنّ لأزواجهن السند والعون.
ولا ننسى-أبدا- ما تعيشه أخواتنا في محنتنا اليوم، تلك التي عصفت بعديد من أخواتنا؛ فساقهن الطغاة إلى المعتقلات والسجون، واستحلوا الحرمات، وامتهنوا الكرامات، وارتكبوا من أفعال الدناءة والخسة ما تعفف أبو جهل عن القيام به!
وفي هذا الموقف العظيم نذكّر بأن الهجرة نهج ماضٍ، ما دام الصراع بين الحق والباطل، بين حاملين للحق - حُرموا من أسباب القوة والمنعة، لكنهم مستمسكون بالحق المر، ساعون لنصرته - وطغاة مستكبرين لا يرجون لله وقاراً.
وقد أجزل الله عطاءه في الدنيا والآخرة لأصحاب الحق المضحّين من أجله، المهاجرين في سبيله، فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[سورة النحل:41]. وقال تعالى:﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾[ سورة النساء:100].
لتظل الهجرة مَعلمًا لمن يستعلون -من أجل دينهم- على جواذب الأرض، وحنين الأوطان، ومجبنة الأهل والولد. وقد أكد رسولنا الكريم عظيم مكانتها حين قال لمن ناصروه وبذلوا الأرواح رخيصة في سبيل نصرة دينهم: "لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار" رواه البخاري ومسلم.
ولأن الهجرة نهج ماضٍ، فقد جعل الله نصرة المستضعفين فريضة لازمة؛ فأخرج أبو داود في سننه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من امرئ مسلم يخُذلُ امرأً مسلماً في موطن تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يُحبُّ فيه نُصرته. وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع يُنتقص فيه من عِرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موضع يحبُ فيه نُصرته". وقد شهد الله للفريقين – المهاجرين والأنصار- بالإيمان، ووعدهم الأجر والمثوبة، فقال جلَّ وعزَّ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [سورة الأنفال: 74].
وإن الحق في عالمنا اليوم يحتاج تلك النصرة؛ ليجد مكانه الذي أراده الله، إنقاذًا للبشرية، وهداية لها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
د. صلاح عبدالحق
القائم بأعمال المرشد العام
الخميس 2 محرم 1445 هـ، الموافق 20 يوليو ٢٠٢٣ م.
أضف تعليقك