تحدث الدكتور صلاح عبد الحق القائم بأعمال المرشد العام للجماعة، في كلمة مصورة، عن مسألة شغلت الرأي العام، وحدث محوري أدى إلى تحولات هائلة في الشأن المصري والعربي. كما أثر على جماعة الإخوان نفسها. هذه المسألة هي موقف الجماعة من الثورة. وفى كلمته عرض رؤيته في وضوح وحزم، مستندًا إلى موقف الإمام البنا وما اتخذ بشأنها من قرارات.
وذكر أن موقف الإمام المؤسس حسن البنا لم يُفهم على وجهه الصحيح؛ لأنه كان دائما يَزوى النظر عنها. وقال إن الإمام البنا عندما سُئل عن الثورة، أجاب بضرورة توافر أربعة عناصر لنجاحها، وهي كالتالي:
الأول:
وجود الزعامة، لأنها تختصر لنا جهودا وأوقاتا، وأن الزعامة تُختار وتُنتقَد، فإذا حازت الثقة أُطيعت وأُزِرت (أُعينت). وإنما الزعيم زعيمٌ تربى، لا ما زعمته الحوادث وأتت به الضرورات. وأن الزعيم تعرفه وتصنعه الجموع والشعوب من خلال مقومات؛ أبرزها ظروف حياته وكفاءته وإخلاصه.
الثاني:
أن يكون للثورة منهاج "خارطة طريق" تعطي لكل عقبة ما تحتاجه من الجهد، وإلا ظلت هذه الجهود مبعثرة لا تحقق هدفا، ولا تجدي نفعا.
الثالث:
إننا في عصر لا يرحم؛ فالمحلي متصل بالإقليمي، والإقليمي متصل بالعالمي. والمحلي لا يعرفني فلن يدعمني، والإقليمي يخافني فلن يقبلني، والعالمي متربص بي، فلن يتغاضى عني، لن يدعني أعبر، لن يدعني أمر. لذلك يحتاج الأمر إلى حديث موجه إلى العالم نستطيع من خلاله أن نجعله يلتفت إلينا. وهو ما تمتع به الامام البنا في خطاباته الحضارية النهضوية، بحسب ما وصفته به الكاتبة الألمانية "إيفيزا لوبين" في بحث لها عن الإمام البنا تحت عنوان "حسن البنا قراءة مغايرة"، تقول: " فجاء خطابه حضارياً نهضوياً قائما على التنوير، فاستمعت إليه أجيال لا يراها".
الرابع:
إننا في وطن تتجه إليه المطامح والآمال، فالحسابات في مصر أكثر حذرا وتعقيدا، لأن الذي يسمح به لغيرها لا يسمح به لها. ولذلك كما نرى -فعلا- تعثرت الثورات في مصر، وخرج أعداؤها من أجل إجهاضها، وأعانهم على ذلك ليس المحلي فحسب؛ ولكن الإقليمي كذلك والعالمي. وهو ما تحدث عنه الامام البنا، موضحا مكانة مصر بين غيرها من الدول قائلاً: إننا نعيش في أخصب بقاع الأرض: أوسطها دارا، وأعدلها هواء، وأعذبها ماء، وأيسرها رزقا، وأوفرها خيرا، وأحفلها بآثار المدنية والعمران. مصر الغنية، مهد الحضارة والعلوم. ما هبطها أجنبي إلا صح بعد مرض، وإلا اغتنى من بعد فاقة، وإلا عزَّ من بعد ذل، وإلا أُترف من بعد بؤس وشقاء. زعيمة أقطار الشرق. نتألم ونحن نراها كذلك، فمصر -فعلا - كان يقدر الإمام البنا مكانتها، ويقول: إنها أمة يقظى، تعرف مكانتها فتبحث عن دورها، وتشعر بالخطر المحدق بها، والأمة اليقظى قلما تموت!
وعن ثورة يناير
وأشار "عبد الحق" في حديثه لموقف الإخوان من ثورة الخامس والعشرين من يناير، والتي أسماها بثورة الشباب، قائلا: إن الجماعة كانت لها حسابات معقدة، فسمحوا لشبابهم أن يتقدموا، وأعطوا القادة أن يعيدوا حساباتهم الحذرة والمعقدة، فالدعوات في بعض مراحلها تحتاج إلى بطولة الجندي قبل كفايات القادة "الجرأة والإقدام والمبادرة"؛ لأن كفاية القادة تحتاج منهم وهي تدير صراعا هائلا أمام عدو لا تنتهي غاراته، تحتاج لحسابات غالبا ما تكون حذرة ومعقدة، وهو ما كان يردده دائما الإمام البنا بأن "المواجهات غير مضمونة النتائج"، وهذا ما كان يجعله دائما حذرًا في المواجهة.
وتابع "عبد الحق" حديثه بأن الذين تحدثوا عن الامام البنا؛ حتى السفارة البريطانية وصفته في تقرير لها أنه مدرس له احترامه، شديد الحذر، يسير إلى هدفه الذي وضعه لنفسه بخطى حثيثة دون أن يلفت إليه الانتباه. وهذه كانت طريقة الإمام البنا في الظروف الحرجة والفترات التي تتحول فيها الأمم وتتغير، فإن لم تكن الحسابات حذرة ومعقدة ممكن أن تكون النتائج وخيمة ولها عواقب مريرة، وهو لا يريد ذلك. وهنا ذكر "عبد الحق" أن الإمام البنا يقول: "هناك فارق كبير بين التضحية العزيزة والتحدي الذي لم يأت وقته بعد، وأن التحدي -الذي لم يأت وقته- مقامرة بالجهود ومغامرة بالشعار، وأنا لا أريد المقامرة بالجهود ولا المغامرة بالشعار".
قالوا له وما التضحية العزيزة؟ قال: "لها أربع ضوابط، وهى: تخير الظرف المناسب، واستخدام منتهى الحكمة فيه، وإنفاذه على نحو أخف ضررا، وأبلغ في الدلالة على المقصد". لذلك الإمام البنا كانت حساباته حذرة ومعقدة، وأن كل خطوة تؤدى إلى التي تليها، ولا وقت للضياع، ويقول: إنها حياتك ولا وقت للتجارب.
وهذا الذي جعل القيادة في ثورة يناير 2011، تترك للشباب بطولة الجند، وهي الإقدام والمبادرة والمبادأة، لأنهم لن يؤاخذوا عليه، ولكن القادة كفاياتها عالية، ولذلك كان دائما الامام البنا يقول: "إن الانتصار ليس في سخاء الأمم بدمائها وأوقاتها، وإنما في الكفايات العالية التي تدير تلك الدماء والأوقات".
وقال: إن السخاء دائماً موجود، تنادى.. هيا، تجد الاستجابة. لكنه عقب مازحاً بشعارات يهتف بها الإخوان " في سبيل الله أدخلنا السجون، وليكن بعد الحوادث ما يكون.. وليعُد للدين مجده، ولترق من الدماء" ويعقب قائلاً: هذا الكلام لا ينفعني، وأقود به جماهير غفيرة من حولي، وإلا سأعرضها للمقامرة بجهودها والمغامرة بشعار نجاحها. ونظل كل مرة نرجع للمربع " رقم واحد" والمراوحة في مكان واحد.
لكن بالحسابات الحذرة والمعقدة، تعرف لكل خطوة، الخطوة التي تليها. ليس فقط الخطوة القادمة ولكن أيضاً التي تليها. ولما سئل الإمام البنا هل هو مع الحسابات الحذرة والمعقدة، هل يثق أنه لن تكون هناك هزيمة؟؟ قال: حتى لو كانت هناك هزيمة، فإنها لن تكون هزيمة الضياع، إنه ضعف مقدور يتبعه نصر قريب. فحدوث الهزائم وارد، وشيء طبيعي. ووارد الخطأ في الحساب، ولكن هذا يجب أن يكون شيئا عارضا، لأن الأصل هو الصواب، ولأن الأمم في بعض مراحلها في تحولها وانتقالها تحتاج إلى كثرة الصواب، والخطأ عارض.
والأمة انتقلت كلها من عصمة النبوة إلى ثقة الخلافة بكثرة صواب سيدنا أبوبكر. كما يقول صاحب "العواصم من القواصم" عن سيدنا أبوبكر " إنه كان وقوراً ذا أناة، استطاع أن ينقل الأمة من عصمة النبوة إلى ثقة الخلافة بكثرة صوابه، فتدارك الله ببيعته الإسلام والأنام، فكان أن أبقت بيعة الصديق دين الله سالماً" وكان رضى الله حذراً وهو يحدث هذ الانتقال الكبير. وأشار إلى خطاب أبي بكر في طلب النصح والتقويم من قومه لانتهاء عصمة النبوة. وأن المسؤولية جماعية، والرأي شورى. وبلغة العصر أن مشروعنا هذا هو مشروعنا جميعاً نسعى لنجاحه جميعاً.
وقال "عبد الحق" إنه سمع الأستاذ حامد أبو النصر، يقول إن الإمام البنا عندما نزل لأول مرة إلى صعيد مصر حضر درس الثلاثاء في محافظة قنا، وعندما انتهى الدرس سأل عن رؤساء الكنيسة، أين الكرادلة والمطارنة والقساوسة؟ لافتاً لضرورة وجودهم ليتعرفوا على رؤيتنا لهذا الوطن، ولنعرف رأيهم في مشروعنا من أجل إنجاحه، لأنهم شركاؤنا في الوطن، ونستعين بهم لأننا أبناء وطن واحد، هو وطننا جميعا، ويتسع لنا جميعا، ففي حديث الثلاثاء الذي تلاه وجد القساوسة والكرادلة في الصف الأول يستمعون.. تأكيدًا على الشراكة مع كل أطياف الأمة.
وأضاف "عبد الحق" أن القادة وأصحاب الكفايات العالية وهي تدير المشاهد، حقنا للدماء وضنًّا بالأوقات أن تسفك في غير موجِب أو تنفق في غير طائل، تحتاج فعلاً إلى حسابات حذرة ومعقدة، وهذا ما فعله الإخوان.. فهم لم يمتنعوا، وإنما قام الأستاذ مهدي عاكف- عندما كان مرشدا- بالتمهيد للأمر مع كل من: حركة كفاية، والاشتراكيين الثورين وحركة 6 أبريل وغيرهم؛ فأنذر وانتظر، ثم جاء الدكتور محمد بديع- مرشد الجماعة- فأقدم واحتمل، وهذه هي كلمات الإمام البنا عندما تحدث عن استخدام القوة العملية حين لا يجدي غيرها، قال سأنذر أولا، وأنتظر ثانيا، وأقدم ثالثا في رجولة وشرف وارتياح ورضا. وتحمَّل رابعا برجولة وشرف وارتياح ورضا، دون تلاوم أو عتاب، وهذا ما فعله الإخوان.
وذكر أن الدكتور بديع المرشد العام للجماعة ما زال يحتمل نتيجة ذلك الإقدام برجولة وشرف ورضا، يجأر بالشكوى، وقد برحت به الآلام، وختم حديثه معقباً على التضحيات العظيمة التي قدمت في ثورة يناير وقال: اقرؤوا إن شئتم (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ). ويقول: لا يضيرنا أن انهزمنا، حسبنا أننا قد أدينا لله واجبنا حيث أقامتنا أقدرانا.
وهذه كلمات أيضاً نقولها لإخواننا الشهداء ولأسر الشهداء، لا يضيرهم أن انهزموا، لقد أدوا لله واجبهم حيث أقامتهم أقدارهم.. وأجهش بالبكاء حزنا عليهم، وقال: الإنسان أحيانا يصيبه الإخفاق المشرف، إذا لم تمهله الأيام وكانت الحوادث أكبر منه، بل كانت حربا عليه. وليس هناك عدة بين يديه، وكانت بليته في أنصاره أشد من بليته في أعدائه؛ وإذا كان إخفاقه ليس في إتقانه لعمله، ولكن في مغالبته لقدره.. أمر ما بدا له، يعنى فأقدم عليه.
أضف تعليقك