لقد وصف الصالحون لنا سمات الابتداء لنأخذ بأحسنها، و لئن كان بعضنا ينسى، في ظروف غفلة، فإن الله خير الغافرين، وليس له أن يقعد بعد الذكر مع القوم الغافلين، وإن عنده لذخيرة من فقه الأولين تعينه على سلوك سبل الرشد الفجاج الواضحة الموصلة إلى رب العالمين .
وإن تـقوى الـقـلوب في الحقيقة هي التي تـقود تقوى الجوارح، كما قال تعالى: { ذلك ومن يعظم شعائـر الله فإنها من تـقوى القلوب } . وقال: { لن ينال الله لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( التـقوى ها هنا ) ، وأشار إلى صدره .
” فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية، مع العمل القليل، أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك، مع التعب الكثير والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تـذهب المشقة وتطيب السير ، والتـقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتـقدم صاحب الهمة، مع سكونه، صاحب العمل الكثير بمراحل )
استعلاء .. ثمنه التعب
وإنما أرشدك الصالحون طريق الاستعلاء والسيادة بالنية والهمة، وعليك تعبه، وركوب مصاعبه، وذلك: إن السيادة نهج واضح الوعر .
وليس أمرها بالهيَّن، وإنما هي قول ثـقيل ألقاه الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى أتباعه : يجب أن يسودوا .
ويمكن لهذا الثـقـل أن تخـففه النية، فيتعاظم تأثير التعب القليل بصلاحها، كما أشار الذين وصفـوا الابتداء، ولكن هداية القـلب، وإضاءة النفس، ونهضات الهمة، إنما يذكيهن الجد ، فمن أرادهن دائمات : أدام جده ، وهـو معنى قولهم : ( استجلب نور القلب بدوام الجد )
فلا بد من الجد الدائم ، لأن خواطر الفكر دائمة، وحركات الجوارح متصلة، فإن لم يكن الجد معهن دائماً : شغلهن ما هو دونه أو ضده ، فيكون الهبوط من بعد الاستعلاء ، يحذرك إياه عبد الوهاب عزام ، و ينبهك أن :
” الفكر لا يحد واللسان لا يصمت ، والجوارح لا تسكن . فإن لم تشغلها بالعظائم : شغلتها الصغائر .
و إن لم نُعمِلها في الخير : عملت في الشر .
إن في النفوس ركوناً إلى اللذيذ والهين، و نفوراً عن المكره والشاق؛ فارفع نـفسك ما استطعت إلى النافع الشاق ، ورضها وسسها على المكروه الأحسن ، حتى تألف جلائـل الأمور وتطمح إلى معاليها ، وحتى تـنفر عن كل دنية و تربأ عن كل صغيرة .
علمها التحليق: تكره الإسفاف . عرّفها العز : تـنـفر من الذل .
وأذقها اللذات الروحية العظيمة : تحقـر اللذات الحسية الصغيرة ”
و أنت صاحب إيمان :
” وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان، لأنه يجاهد نفسه كذلك في أثناء مجاهدته للناس، وتتـفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتـفتح له أبداً وهو قاعد آمن ساكن ، وتتبين له حقائق في الناس وفي الحياة لم تكن لتتبين له أبداً بغير هذه الوسيلة ، ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته ، و بعاداته وطباعه وانفعالاته واستجاباته، ما لم يكن ليبلغه أبداً بدون هذه التجربة الشاقة العسيرة .
وهذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } ، وأول ما تـفسد : فساد النفوس بالركود الذي تأسن معه الروح، وتسترخي معه الهمة، و يتلفها الرخاء و الطراوة ، ثم تأسن الحياة كلها بالركود ، أو بالحركة في مجال الشهوات وحدها ، كما يقع للأمم حين تبتلى بالرخاء ”
وأتعب الناس من جَلّت مطالبه
وأنت حر كريم
و ” لا يرمي الحر الكريم إلا لأن يبلغ الأمد الأبعد في كل ما يحاوله فلا يألو أن يبذل جهده إلى غاية الطاقة ومبلغ القدرة ، مستمداً قوة من بعد قوة، محققاً السحر القادر الذي في نفسه، متلقياً منه وسائل الإعجاز في أعماله، مرسلاً في نبوغه من توهج دمه أضواء كأضواء النجم تثبت لكل ذي عينين إنه النجم لا شيء آخر ”
و أنت صاحب غاية :
و إنما يوصل الداعية إلى غايته: ” شغفه بدعوته و إيمانه ، و اقتـناعه بها ، و تـفانيه فيها ، وانقطاعه إليها بجميع مواهبة وطاقاته ووسائله ، وذلك هـو الشرط الأساسي والسمة الرئيسة للدعاة ”
و أنت طالب نفوذ إلى الله .
و ” طالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة ، بل إلى كل علم وصناعة ورئاسة، بحيث يكون رأساً في ذلك مقتدى به فيه، يحتاج أن يكون شجاعا ًمقداماً، حاكماً على وهمه، غير مقهور تحت سلطان تخيله، زاهداً في كل ما سوى مطلوبه، عاشقاً لما توجه إليه، عارفاً بطريق الوصول إليه ، والطرق القواطع عنه ، مقدام الهمة ، ثابت الجأش ، لا يثـنيه عن مطلوبه لوم لائم ولا عذل عاذل ، كثير السكون ، دائم الفكر ، غير مائل مع لذة المدح ولا ألم الذم ، قائماً بما يحتاج إليه من أسباب معونته ، لا تستـنفره المعارضات ، شعاره الصبر ، وراحته التعب ”
محنة الفراغ و الغفلة
و يجتمع هذا الكلام الحق ليقرر أن محنة الداعية المسلم لا تكمن في معارضة الكفر له ، ولا في سجنه ، و تعذيبه
و تجويعه ، بقدر ما تكمن في استرخاء همته و التذاذه بالراحة .
ما محنة الداعية إلا لهوه وغفلته، وجلوسه فارغاً ، وربما زاد فينفتح له باب من اللغو بعد اللهو .
تـلك هي المحنة الحقيقية التي تـفتعـلها الجاهلية للدعاة بما تعرض للناس من مغريات و أسباب لهـو تـلـفـت أنظارهم إليها .
وما انتصار الداعية إلا في أن تعاف نفسه ما لا يؤثر في تـقدم دعوته .
إن غفلة الداعية محنة لأنها صرفته عن نصر ممكن يحققه له الجد والعمل الدائب، وعن أجر وثواب أخروي ليس له من مقدمة إلا هذا الجد .
وسيظل اسمنا مكتوباً في سجل الغافلين الفارغين ما دمنا لا نعطي للدعوة إلا فضول أوقاتـنا، وما دمنا لا نشغفها حباً ولا نتخذها حرفة .
إن الـداعـية الـمسلم لا يملك نـفـسه حتى يسوغ له أن يمنح نفسه إجازة ، وإنما هـو – كما شبهه بعض الأفاضل – ( وقف لله تعالى ) .
تماماً كنسخة من كتاب نافع حين توقف لله تعالى وتوضع في مسجد من مساجد الله ، فكل داعية موقوف لله ، في جزء من أجزاء دعوة الله .
و إن فضول الأوقات ليست قليلة و محدودة فحسب ، و إنما هي أردأ ساعات اليوم ، حيث يكون فيها الذهن و الجسم متعبين أشد التعب .
و ما تجاوز الأستاذ المودودي – رحمه الله – أعراف أجيال الدعاة حين صارحنا في تذكرته القيمة وقال :
” إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نار متـقدة، تكون في ضرامها على الأقـل مثـل النار التي تتـقد في قلب أحدكم عندما يجد ابناً له مريضاً ولا تدعه حتى تجره إلى الطبيب، أو عندما لا يجد في بيته شيئاً يسد به رمق حياة أولاده، ولا تـزال تـقـلـقه و تضطره إلى بذل الجهد والسعي .
إنه من الواجب أن تـكون في صدوركم عاطفة صادقة تـشغلكم في كل حين من أحيانكم بالسعي في سبيل غايتكم و تعمر قلوبكم بالطمأنينة، وتكسب لعقولكم الإخلاص والتجرد والحنيفية وتركز عليها جهودكم وأفكاركم بحيث أن شئونكم الشخصية و قضاياكم العائلية إذا استرعت اهتمامكم فلا تـلتـفتون إليها إلا مكرهين. وعليكم بالسعي أن لا تـنـفـقوا لمصالحكم وشئونكم الشخصية إلا أقـل ما يمكن من أوقاتكم و جهودكم ، فتكون معظمها منصرفة لما اتخذتم لأنفسكم من الغاية في الحياة وهذه العاطفة مالم تكن راسخة في أذهانكم ، ملتحمة مع أرواحكم و دمائكم ، آخذة عليكم ألبابكم وأفكاركم ، فإنكم لا تـقـدرون أن تحركوا ساكناً بمجرد أقوالكم ”
و لم يتجاوز حين كرر و قال ثانية أن: ” اسمحوا لي أن أقول لكم إنكم إذا خطوتم على طريق هذه الدعوة بعاطفة أبرد من تلك العاطفة القلبية التي تجدونها في قلوبكم نحو أزواجكم وأبنائكم وآبائكم وأمهاتكم فإنكم لا بد أن تبوءوا بالفشل الذريع ، بفشل لا تتجرأ بعده أجيالنا القادمة على أن تتفكر في القيام بحركة مثل هذه إلى مـدة غير وجيزة
من الزمان، عليكم أن تستعرضوا قوتـكم القلبية والأخلاقية قبل أن تهموا بالخطوات الكبيرة ”
إن من يطالب الآن بإلغاء الراحة فإنه إنما يستـند إلى مادة واضحة في قانون الدعوة والدعاة سنها عمر الفاروق رضي الله عنه، تـنطق بصراحة أن :
( الراحة للرجال : غفلة )
وجددها إمام المحدثين شعبة بن الحجاج البصري فقال: ” لا تـقعدوا فراغاً فإن الموت يطلبكم ” .
ذلك أن من أراد الراحة و السكون فإن الموت و القبر يزودانه منهما حتى يشبع . وكأننا – والله – قد أسرفنا في الغفـلة، ولا بد من عزيمة نفطم بها نفوسنا عن اللهـو .
إننا حين نثبت جواز التمتع بالمباحات فلكي يعلم من نخاطبه أننا لا ندعو إلى مثـل الطريقة المبتدعة التي كان عليها بعض الزهاد من الجوع والعري والرهبانية ، وإلا فلا يزال جواب ابن الجوزي يصلح جواباً لنا حين سأله سائل : ” أيجوز أن أفسح لنـفسي في مباح الملاهي ؟ ” فقال : ” عند نفسك من الغفلة ما يكـفيها ”
فإن اعترض معترض : أتيناه بمثل كلام ابن القيم حيث يقول : ” لا بد من سِنة الغفـلة، ورقاد الغـفـلة، ولكن كن خفيف النوم ”
فنحن لا ننكر ما في المعنى الحرفي لإطلاقات من عاب الراحة من إرهاق ، وإنما نريد – كما أرادوا – تـقليلها إلى أدنى ما يكفي الجسم ، كل حسب صحته و ظروفه، خاصة وأن المؤمن في هذا الزمن أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه وتـفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية، ذلك أنهم كانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل ، ويسوده التواصي بالحق، والرذائل تجهد نفسها في التستر والتواري عن أعين العلماء و سيوف الأمراء ، أما الآن فإن المدنية الحديثة جعلت كفر جميع مذاهب الكفار مسموعاً مبصراً بواسطة الإذاعات والتـلفزة والصحف، وجعلت إلقاءات جميع أجناس الشياطين قريبة من القـلوب، وبذلك زاد احتمال تأثر المؤمن من حيث لا يريد ولا يشعر بهذا المسموع والمنظور ، فضلاً عن ارتـفاع حكم الإسلام عن الأرض الإسلامية التي يعيش فيها, فوجب عليه شيء من المجاهدة والمراقبة لوقته أكثر مما كان يجب على السلف .
و ما أصدق تصوير إمام تركيا بديع الزمان سعيد النورسي – رحمه الله – لهذه الحقيقة حين يقول : ” إن هذه المدنية السفيهة ، المصيرة للأرض كبلدة واحدة ، يتعارف أهلها و يتـناجون بالإثم وما لا يعني، بالجرائد صباحاً و مساء، غلظ بسببها و تكاثف بملاهيها حجاب الغفلة، بحيث لا يخرق إلا بصرف همة عظيمة ” .
فكن خفيف النوم أيها الداعية المسلم لتحصل لك هذه الهمة العظيمة .
و انته من رقدة الغفلة
فــالـعـمـر قليـل
و اطّرح سوف وحتى
فهما داء دخيل
وعبر الصالحون عن هذه المعاني أحياناً بلفظ آخر سموه : حفظ الوقت، أو مراعاة الوقت .
فيرى الإمام البنا أن : ” من عرف حق الوقت فقد أدرك قيمة الحياة فالوقت هو الحياة ” .
أو كما قال في خطبة المؤتمر الخامس : ” إنما الوقـت هو الحياة ” يخالف بذلك قول الماديين : الوقت من ذهب . وكان – رحمه الله – يحب أن يتجاوز الداعية معرفة حق وقت يومه إلى التخطيط لصرف وقت غده ، فينوي لكل ساعة نوع خير ، و : ” ينام على أفضل العزائم ”
و ترك الفراغ ، والاستيقاظ من رقدة الغفلة ، معناهما التعب ، ثم التعب ، و استـفـراغ الوُسع في العمل لله . نطق بذلك الإمام الشافعي ، ونـفى أن تصح مروءة داعية يطلب الراحة ، فقال :
” طلب الراحة في الدنيا لا يصح لأهل المروءات ، فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان ” . ولما سئل أحد الزهاد عن سبيل المسلم ليكون من صفوة الله ، قال : ” إذا خلع الراحة وأعطى المجهود في الطاعة ” .
فالداعية الصادق يخلع الراحة ، ويعود لا يعرفها ، وتصبح عنده ذكريات شبابه الأول وصباه فحسب .
وأما الإمام أحمد فقد ترجمت سيرته في المحنة هذه الأوصاف عملاً ، حتى قال لابنه : ” يا بني : لقد أعطيت المجهود من نفسي ”
يعني في المحنة , وبذلك حدَّ حدّاً لا يسع الداعية النقصان فيه ولا التخلف عنه ، فعلى الداعية بذل المجهود من نفسه ، و استـفراغ كل طاقته في خدمة الدعوة .
طريق رسمه الإمام أحمد لا يسعنا أن نحيد عنه , ومقدار قدره للدعاة ليس لهم أن يقـفوا دونه نصيباً مفروضاً ، هو : المجهود من النـفس ، وعلامته حين المحن : الصبر على الأذى حتى الموت . وعلامته في حياتك اليومية : أنك إن جئت إلى فراشك ليلاً لتـنام وجدت لركبتيك أنيناً ، و في عضلاتك تشنجاً ، لكثرة ما تحركت في نهارك .
وإنما نسميه التعب ، والأنين ، و التشنج ، لغرض تـفهيم الداعية الجديد ، لأن هذه الاصطلاحات هي لغة أهله و عموم الناس الذين تركهم من قريب ، و أما في لغة الدعاة فهو محض اللهو الذي تهفو إليه نفوسهم ، و عنهم نقله البحتري في وصفه لممدوحه حين يقول :
قلب يطل على أفكاره ، ويدٌ **** تمضي الأمور ، ونفس لهوها التعب
ومن لا يعلم موازين المؤمنين يظن ذلك حرماناً من لذة ، وخداع ألفاظ ، و غواية اتباع الشعراء ، ولكن من أوتي علم الكتاب يعرف أن الراحة الحقيقية : راحة الآخرة ، لا راحة الحياة الدنيا ، ولذلك لما قيل للإمام أحمد : ” متى يجد العبد طعم الراحة ؟ ”
قال : ” عند أول قدم يضعها في الجنة ”
و لما تعجب غافل من باذل وقال له : ” إلى كم تتعب نفسك ؟ ”
كان جواب الباذل سريعاً حاسماً : ” راحتها أريد ”
” فالطالب الصادق في طلبه كلما خـرب شيء من ذاتـه : جعله عمارة لقلبه وروحه . وكلما نـقص شيء من دنياه : جعله زيادة في آخرتـه . وكلما منع شيئاً من لذات دنياه جعله زيادة في لذات آخرته . وكلما ناله هم أو حزن أو غم : جعله في أفراح آخرته ”
و من لمح فجر الأجر : هان عليه ظلام التكليف، كما يقول ابن الجوزي .
من كتاب “الرقائق” للأستاذ محمد أحمد الراشد
و لعمرو الله ما هو بظلام ، ولكنها لغة اضطر لها كما اضطررنا ليـعـقـل مراده الراقدون .
أضف تعليقك