بقلم: وليد شلبي
تُعدُّ غزوة بدر نقطةَ تحوُّلٍ وتغيُّرٍ، وفرقانًا في التاريخ الإسلامي؛ لما تحويه من دروس وعبر، ونتائج لا يمكن لأحد أن ينكر أهميتها، فالذي يدرس غزوة بدر، ويستعرض مقدماتِها ونتائجَها يحسُّ بمنزلتها الخاصة، ويدرك أن التاريخ أودع في فصولها سرًّا تكتنفه الهيبة، وجعل من أدوار القتال فيها موعظةً خالدةً لا تفتأ تتجدَّد ذكراها ما بقي في الدنيا قتالٌ بين الحق والباطل، وصراع بين الظلام والنور.
فهي غزوة سيتحدد مستقبل عبادة الله في الأرض على نتيجتها، هل ستبقى أم ستفنى؟! لذا نجد أن قائد المعركة يشعر بهذه الحقيقة الحاسمة فيلجأ إلى الله مستنجزًا وعده، وهذا ما نجده في دعاء حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم: “اللهُمَّ آتني ما وعدتني، اللهُمَّ أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تَهلِك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تُعبَد في الأرض، وما يزال يهتف بربِّه، مادًّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، وحتى نزل الوحي مطمئنًا؛ سيُهزَم الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُر”.
وما ظنك بموقعة تكون الخصومة فيها في الله، ويكون القتال فيها بدايةً لسلسلة من المعارك، يحتدم النزاع فيها بين الحق والباطل، هذه السلسلة من المعارك التي خاضها المسلمون من بعد في فارس والروم لا تحسب الصلة بينها وبين بدر مقطوعةً، إنها صلة النسب بين الأصل ونتائجه، فكان أول سيف شُهِر في بدر؛ إيذانًا بابتداء النضال المسلَّح بين الحق والباطل، كلما انتهت معركة قامت أختها.
القدر يمهد للموقعة ويفرضها
لقد فُرضت الموقعة على المسلمين فرضًا، وفوجِئوا على غير استعداد بتحدي صناديد قريش وأبطالها لهم؛ ولم يكن بدٌّ من قبول هذا التحدي، وواجه النبي- صلى الله عليه وسلم- الموقف بما يتطلبه من إيمان وثقة، غير أن بعض المسلمين تساءل.. إذ كيف يواجه هذا العدو الذي لم يستعد له؟! ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ المُؤمِنينَ لَكَارِهُونَ* يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ (الأنفال: 5- 6).
ولكن القدر كان يدفع الأمور إلى مجراها الذي أعده إعدادًا محكمًا، فها هو ذا قد جمع بين الفريقين على غير موعد ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ ولكن ليقضيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً﴾ (الأنفال: من الآية 42)، ويغري كليهما بالآخر، ويجعله يرى عدده ضئيلاً قليلاً ﴿وَإِذْ يُريكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرجَعُ الأمُورُ﴾ (الأنفال: 44)، ويبعث الشيطان لينفخ الغرور في أتباعه، وليصيح بينهم ﴿لا غَالِبَ لَكُمُ اليومَ مِنَ النَّاسِ وإنِّي جَارٌ لَكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 48).
ونجد الأمور تتطور بسرعة عجيبة في معسكر الإيمان؛ فيتتابع المهاجرون على التضحية بالنفس، لا نقول لكَ كما قال قوم موسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (المائدة: من الآية 24)؛ ولكن نقاتل عن يمينك، وشمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك.
وكان في وسع الأنصار أن يتحلَّلوا من هذه المعركة؛ فإنهم إنما عاهدوا الرسول على حمايته في بلدهم، ومنعته ما دام بينهم؛ فإذا خرج في حرب هجومية فليس له عليهم سبيل، ولكن الأنصار لم يتحلَّلوا، ونجد زعيمَهم سعد بن معاذ يقول: يا رسول الله، قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا على السمع والطاعة، فامضِ لما أَردَّت فوَالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا أحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا وعدوك، إنا لصُبُر عند الحرب، صدُقٌ عند اللقاء، ولعل الله- عز وجل- أن يريَك منا ما تقرُّ به عينك؛ فسِر بنا على بركة الله.
مقدمات للنصر
من المعروف أن الغزوة وقعت في السنة الثانية للهجرة، أي بعد خمسة عشر عامًا من بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، فلا بد أن نتدبر الأعمال التي سبقت هذا النصر، فالفترة التحضيرية مهمة جدًّا؛ لأن النصر يحتاج إلى تحضير جيد واستعداد متميز, ويحتاج إلى رجال تستحق النصر وتحميه وتحافظ عليه.
أ- ترسيخ العقيدة في النفوس: لقد مكث النبي عليه السلام في مكة ثلاثة عشر عامًا، كان يركز فيها على تصحيح عقيدة الناس وتوجيههم إلى عبادة الله الواحد الأحد ، ولبث على ذلك الفترة المكية كاملة، وكانت الآيات القرآنية تنزل على قلبه المبارك، مؤيدةً لترسيخ العقيدة في النفوس وصفائها ونقائها؛ وكان لذلك الأثر الواضح في حياة الصحابة، فانتقلوا من ذلِّ الوثنية إلى عزِّ الوحدانية, ومن تعدد الآلهة إلى وحدانية الإله الواحد, فارتقَوا وسمَوا وأعدوا أنفسهم لتلقي أوامر الله سبحانه.
ب- إحياء دور المسجد: فالمسجد هو القلب النابض للأمة، وعصب حياتها, يدخله الإنسان وفي قلبه خشية لله, يجمع الفقير والغني والرئيس والمرؤوس, والحر والعبد, فيربط القلوب ببعضها, وتستوي الصفوف فيه، فتتآلف القلوب، وبهذا البُعد الاجتماعي تآلَفَ الصفُّ المسلم الوليد.
لذا كان من أول أعمال المصطفى صلى الله عليه وسلام بناء هذا الصرح الإسلامي العظيم، فكان العمود الفقري لأمة الإسلام، فهو مكان العبادة والعلم والقيادة والتوجيه, تسمو فيه الروح, ويتأدَّب فيه الجسد, وتشحذ فيه الهمة, فينطلق الفكر محلقًا يبحث عن حلول لهذه الأمة.
جـ- الموآخاة وتحويلها لواقع ملموس: لقد آخى الإسلام بين المهاجرين والأنصار وتحقَّقت كلمة المدح التي امتدح الله بها المؤمنين بقوله ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ ولم تكن مجرد شعار يُرفع، ولكنها كانت واقعًا ملموسًا يشهد به كل من عايشه.
د- تعميق الشورى: لقد أرسى المصطفى صلى الله عليه وسلم مفهوم الشورى في نفوس أصحابه، وربَّاهم عليه وغرسه في نفوسهم، وهذا ما تجلَّى بصورة كبيرة في موقف سيدنا الحباب بن المنذر، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً يوم بدر فقال الحباب بن المنذر: ليس هذا بمنزل، انطلق بنا إلى أدنى ماء إلى القوم، ثم نبني عليه حوضًا ونقذف فيه الآنيةَ فنشرب ونقاتل وتغوَّر ما سواها، قال فنزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا حباب أشرت بالرأي” فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك.
وإذا تأملنا هذا الموقف نجد أن الحباب بن المنذر كان شخصًا إيجابيًّا، على الرغم من أنه أحد عامة المسلمين، وكان أمامه من الأعذار لكي يسكت أو يعطِّل تفكيره، فهو جندي تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يتلقَّى الوحي من السماء، وهناك كبارُ الصحابة أصحاب الرأي والمشورة، ولكن كل هذه الأسباب لم تمنعه من إعمال فكره، ولم تمنعه من الجهر برأيه الصائب، مع ذلك التزم الأدب الرفيع في الجهر بهذا الرأي، فتساءل أولاً: إن كان هذا الموقف وحيًا من عند الله أم أنه اجتهادٌ بشريٌّ؟ فلما عرف أنه اجتهادٌ بشريٌّ وجد ذلك مجالاً لطرح رؤيته الصائبة.
ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم غضاضةً في الأخذ برأي واحد من عامة المسلمين، وهذا الموقف يعطينا انطباعًا مهمًّا عن الجو العام السائد في الجماعة المسلمة آنذاك، ذلك الجو المليء بالثقة والمحبة والإيجابية وإبداء النصيحة وتقبل النصيحة.
هذه هي الأمور الأساسية والتمهيدية لتجربة النصر الأولى في حياة المسلمين، فإذا أرادنا أن نكرِّر هذه التجربة فلا بد من تحقيق هذه الأمور الثلاثة: تصحيح العقيدة وتريسيخها وإنزالها منزلتها المستحقة في النفوس، وإحياء دور المساجد في النفوس؛ لأنه الطريق المعبّد لنصر لا خيانةَ فيه ولا حسدَ فيه، وهو الوعاء التربوي للأمة كلها، ومن أهم مظاهر وحدتها وقوتها، وزيادة الترابط وإشاعة روح الأخوَّة بين أفراد المسلمين؛ حتى يكونوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمَّى، والشورى كأحد أهم أسس التربية الصحيحة لتكوين الأمم والشعوب، والتي أعطت أبرز نتائجها في موقف الحباب وبيَّنت نتيجة الالتزام بها.
أسباب النصر
لا بد أن نعيَ أن النصر الحقيقي من الله، وكل ما دونه ستار لقدرة الله، وهذا ما بيَّنته غزوة بدر بجلاء ووضوح، فعندما حقَّق المسلمون في أنفسهم موجباتِ النصر تحقَّق النصرُ، بل وأكثر من ذلك، لقد كفاهم الله مؤنته ودافع عنهم ومدَّهم بمدد من عنده، بل وحارب عنهم، وهذا ما سنحاول الحديث عنه هنا:
1- الاستغاثة بالله ونزول الملائكة: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ* وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال: 9، 10) روى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وغيرهم عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- قال: حدثني عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: لما كان يوم بدر نظر النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألفٌ وزيادةٌ، فاستقبل نبي الله القبلة ثم مدَّ يده وجعل يهتف بربه: “اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض” فما زال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر- رضي الله عنه- فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربَّك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ (الأنفال: 10) فلما كان يومئذ والتقَوا هزم الله المشركين، فقُتل منهم سبعون رجلاً وأُسر سبعون.
2- الملائكة للبشرى والطمأنينة: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (آل عمران: 126) يقول ابن جرير الطبري: “يقول تعالى ذكره: لم يجعل الله إرداف الملائكة بعضها بعضًا، وتتابعها بالمسير إليكم أيها المؤمنون مدَدًا لكم إلا بشرى لكم، أي بشارةً لكم تبشركم بنصر الله إياكم على أعدائكم ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ﴾ يقول: ولتسكن قلوبكم بمجيئها إليكم وتوقن بنصر الله لكم، وما النصر إلا من عند الله. يقول: وما تنصرون على عدوكم أيها المؤمنون إلا أن ينصركم الله عليهم، لا بشدة بأسكم وقواكم، بل بنصر الله لكم؛ لأن ذلك بيده وإليه، ينصر من يشاء من خلقه”.
فالملائكة إذن لا تحقق النصر، وقوة بأس المؤمنين لا تحقق النصر؛ بل المؤمنون والملائكة ستار لقَدَر الله وهم جنود الله تعالى، ينصر بهم وبغيرهم؛ لأن النصر بيده سبحانه، وهذا ليَتم التجردُ الكاملُ من عالم الأسباب، وإعادة الأمر كله لله.
3- النعاس من جنود الله: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ﴾ (الأنفال: من الآية 11) عن علي- رضي الله عنه- قال: ما كان فينا فارسٌ يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا متيقِّظٌ إلا رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة، يصلي ويبكي حتى أصبح، ذكره البيهقي والماوردي، وفي امتنان الله تعالى عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:
أحدهما: أنه قوَّاهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني: أنه أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما يقال: “الأمن منيم والخوف مسهر”.
يقول الشهيد سيد قطب “أما قصة النعاس الذي غشي المسلمين قبل المعركة فهي قصة حالة نفسية عجيبة, لا تكون إلا بأمر الله وقدره وتدبيره.. لقد فزع المسلمون وهم يرون أنفسهم قلةً في مواجهة خطر لم يحسبوا حسابه ولم يتخذوا له عدته، فإذا النعاس يغشاهم، ثم يصحون منه والسكينة تغمر نفوسهم، والطمأنينة تفيض على قلوبهم، وهكذا كان يوم أحد.. تكرر الفزع, وتكرر النعاس, وتكررت الطمأنينة، ولقد كنت أمرُّ على هذه الآيات, وأقرأ أخبار هذا النعاس, فأُدركه كحادث وقع, يعلم الله سرَّه, ويحكي لنا خبره، ثم إذا بي أقع في شدة, وتمر عليَّ لحظاتٌ من الضيق المكتوم, والتوجس القلق, في ساعة غروب، ثم تدركني سِنَةٌ من النوم لا تتعدَّى بضع دقائق، وأصبح إنسانًا جديدًا غير الذي كان.. ساكن النفس.. مطمئن القلب.. مستغرقًا في الطمأنينة الواثقة العميقة، كيف تم هذا? كيف وقع هذا التحول المفاجئ? لست أدري!! ولكني بعدها أدرك قصة بدر وأحد.. أدركها في هذه المرة بكياني كله لا بعقلي، وأستشعرها حيةً في حسي لا مجرد تصور، وأرى فيها يدَ الله وهي تعمل عملَها الخفيَّ المباشر، ويطمئن قلبي”.
4- الماء من جنود الله وله وظائف أربع: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾ ظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر، وقال ابن أبي نجيح: كان المطر قبل النعاس، وحكى الزجَّاج: أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماءَ لهم، فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك، فقال: بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم: نزعم أنا أولياء الله وفينا رسوله وحالنا هذه والمشركون على الماء؟! فأنزل الله المطر ليلة بدر السابع عشر من رمضان حتى سالت الأودية؛ فشربوا وتطهَّروا وسقوا الظهر، وتلبَّدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين؛ حتى ثبتت فيه أقدام المسلمين وقت القتال، وبذلك يتم المزج بين المدَد الروحي والمدَد المادي، فتسكن القلوب بوجود الماء, وتطمئن الأرواح بالطهارة، وتثبت الأقدام بثبات الأرض وتماسك الرمال.
5- الملائكة بحاجة إلى معية الله سبحانه: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ﴾ وهذه الآية توضِّح أن الملائكة بدون عون الله تعالى عاجزون عن تحقيق أي نصر، حتى وهم يثبِّتون المؤمنين ويقاتلون معهم، لا بد لهم من معيَّة الله سبحانه ليلقي الرعب في قلوب الكافرين.
6- الله تعالى يدير المعركة: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ* ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ﴾ (الأنفال: 12: 14) فقوله: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ تبين أن المعركة جرت على عين الله سبحانه، وأنه كان يوجِّه الملائكة بتوجيه المؤمنين لما يجب عليهم فعله ليحققوا النصر في أرض المعركة.. يقول: قوُّوا عزمهم، وصحِّحوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين، وقيل إن الملك يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت هؤلاء القوم- يعني المشركين- يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفنَّ، فيحدث المسلمون بعضهم بعضًا بذلك فتقوى أنفسهم، قالوا: وذلك كان وحي الله إلى ملائكته.
﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ﴾ يقول تعالى: سأُرعب قلوب الذين كفروا بي أيها المؤمنون منكم وأملأُها فزعًا حتى ينهزموا عنكم، فاضربوا فوق الأعناق.. يقول الشهيد سيد قطب- يرحمه الله-: “إنها المعركة كلها، تدار بأمر الله ومشيئته, وتدبيره وقدره; وتسير بجند الله وتوجيهه.. وهي شاخصةٌ بحركاتها وخطراتها، من خلال العبارة القرآنية المصوّرة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان, كأنه يكون الآن!!”.
7- المؤمنون من جند الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ* وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (الأنفال: 15، 16) وهنا توضيح لحقيقة مهمة، وهي أن المؤمنين مجرد جند من جنود الله لتحقيق النصر وليسوا صانعيه، فهم أداة ييسرها الله لتحقيق النصر، وتوضح الآية أنه لا مجال لفرار المؤمنين من الزحف، فقد أمر الله عز وجل في هذه الآية ألا يولِّيَ المؤمنون أمام الكفار، وقال الجمهور من العلماء إن حكم الآية باقٍ إلى يوم القيامة، وليس في الآية نسخ، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اجتنبوا السبع الموبقات.. وفيه: والتولي يوم الزحف”.
8- الحصى من جند الله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ (الأنفال: 17، 18).. روي أن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل: قتلت كذا، فعلت كذا؛ فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك، فنزلت الآية إعلامًا بأن الله تعالى هو المميت والمقدِّر لجميع الأشياء، فقيل: المعنى لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم، وقيل: ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدَّكم بهم، (تفسير القرطبي ج4،7 ص384).
﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾، ولما اشتد القتال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه يسأل الله النصر وما وعده، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخذ من الحصى كفًّا فرماهم بها وقال: “شاهت الوجوه، اللهم أرعب قلوبهم، وزلزل أقدامهم” فانهزم أعداء الله لا يلوون على شيء، وألقَوا دروعَهم، والمسلمون يقتلون ويأسرون، وما بقي منهم أحدٌ إلا امتلأ وجهُه وعيناه، ما يدري أين توجَّه، والملائكة يقتلونهم، فهذه إرادة الله أن تجعل من الحصى جندًا من جنده.
9- الأخذ بالأسباب: فقد أخذ المسلمون بكل الأسباب المتاحة لديهم ماديًّا ومعنويًّا، ولم يدخروا وسعًا في ذلك حتى تنزلت عليهم رحمة الله.
10- التوكل التام على الله: وغزوة بدر توضح بجلاء نتيجة التوكل التام والمطلق على الله سبحانه، وتوضح أيضًا نتيجة هذا التوكل، وعون الله لجنده، وإمدادهم بجنود من عنده.
سلاح الإيمان
ويبقى سؤال لا بد أن نسأله لأنفسنا في هذه المناسبة العظيمة: ما الذي حمل هؤلاء الأصحاب على أن يقفوا هذا الموقف، مع أن جذوة المعركة وجوانبها المادية تجعل أشدَّ الناس تفاؤلاً ينظر إلى آثارها من خلال غيوم سُود؟!
إنه الإيمان بالله الذي يضع أمر الله ورسوله في جانب والدنيا كلها في جانب آخر، وإنه التسليم لله ورسوله مهما حذر العقل ونهت ظواهر الأشياء، وإنها الثقة التي لا تجادل في أن الموت في الله شرفٌ لا يقلُّ عن شرف النصر على الناس، وهيهات لمن يحمل هذه المبادئ أن يذل أو يُهزم، أو يكون بعيدًا عن تأييد الله ونصره.
إنها قوة الإيمان، وصدق اليقين، ومضاء العزيمة، ورسوخ العزم والإرادة، ولن يكون النصر أبدًا بكثرة العدد، ولا بوفرة السلاح، ولا بكثرة الأموال، ولكن بمقدار تحقق الإيمان في النفوس وتمكنه منها.
حقيقة النصر والصراع
ونختم بهذه الكلمات للشهيد سيد قطب، يلخِّص فيها حقيقة النصر على الأعداء والصراع معهم: “ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله.. ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب”.. إنها ليست فلتةً عارضةً, ولا مصادفةً عابرةً, أن ينصر الله العصبة المسلمة, وأن يسلِّط على أعدائها الرعبَ والملائكةَ مع العصبة المسلمة.. إنما ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله, فاتخذوا لهم شقًّا غير شقِّ الله ورسوله, وصفًّا غير صفِّ الله ورسوله، ووقفوا موقفَ الخلف والمشاقَّة هذا يصدون عن سبيل الله, ويحُولُون دون منهج الله للحياة.
قاعدة وسنة.. لا فلتة ولا مصادفة.. قاعدة وسنة أنه حيثما انطلقت العصبة المسلمة في الأرض لتقرير ألوهية الله وحده، وإقامة منهج الله وحده, ثم وقف منها عدوٌّ لها موقف المشاقَّة لله ورسوله.. كان التثبيت والنصر للعصبة المسلمة، وكان الرعب والهزيمة للذين يشاقُّون الله ورسوله، ما استقامت العصبة المسلمة على الطريق، واطمأنت إلى ربها, وتوكلت عليه وحده، وهي تقطع الطريق.
وفي نهاية المشهد يتوجَّه بالخطاب إلى أولئك الذين شاقُّوا الله ورسوله.. إن هذا الذي حلَّ بكم في الدنيا من الرعب والهزيمة ليس نهايةَ المطاف، فأمر هذا الدين والحركة به والوقوف في طريقه ليس أمرَ هذه الأرض وحدها, ولا أمرَ هذه الحياة الدنيا بمفردها.. إنه أمرٌ ممتدٌّ إلى ما وراء هذه الأرض, وإلى ما بعد هذه الحياة.. إن أبعاده تمتدُّ وراء هذه الآماد القريبة.. ﴿ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)﴾ (الأنفال).. فهذه نهاية المطاف، وهذا هو العذاب الذي لا يُقاس إليه ما ذقتم، من الرعب والهزيمة، ومن الضرب فوق الأعناق، ومن ضرب كل بنان.
أضف تعليقك