ونكمل مع كتاب زاد على الطريق لفضيلة الأستاذ مصطفى مشهور – رحمه الله – حول المعاني والأعمال التي يتزود بها الداعية في طريقه حيث يقول:
فلنتزود من القرآن
أرانى أشعر بالعجز عند الكتابة حول موضوع الزاد على الطريق، وخاصة حول كيفية التزود وكيف ننهل من زاد الإيمان و التقوى و الهداية و النور ، فالأمر ليس أمر خبرة وتجربة ومعرفة، لكنَّه بالدرجة الأولى يرجع إلى تفضل المعطي الوهاب سبحانه وتعالى { يختص برحمته من يشاء } وهو الذى يمنُّ علينا بالهداية والإيمان ويفيض بأنواره ورحمته بلا حدود فلا حرج على فضل الله .
{ يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علىّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } ،
{ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم } .
الله مصدر كل خير :
فالله سبحانه مصدر كل خير، ولكنه تفضلاً منه ورحمة بنا، أرشدنا إلى الوسائل والأسباب التى نأخذ بها كى نستجلب هذا الزاد منه سبحانه، ولو دققنا لوجدنا أن الأمر بالدرجة الأولى يرجع إلى حال العبد الذى يقف بباب ربه يسأله؛ ليعطيه؛ فيطلع منه ربه على خضوعه وخشوعه وذله وافتقاره إليه وخوفه منه وخشيته له ورجائه منه وطمعه فى رحمته ، هذا هو الأصل ثم تأتي بعد ذلك الوسائل والأسباب، وبقدر صدق العبد في هذه الأحوال يكون العطاء و الفضل من الله الوهاب .
من هنا أجدنى أشعر بالإشفاق على نفسي، وقد يصل الإشفاق إلى الخوف عندما أجدنى أتعرض لإرشاد غيرى في هذا الأمر، وقد لا أكون أهلاً لذلك، ولكن أمام إحساسي بالحاجة الماسة والضرورة الملحة لهذا الزاد بالنسبة لكل من يسلك طريق الدعوة؛ فإنى أستعين بالله وأكتب لمحات للاسترشاد بها .
ولما كان هذا الزاد شأن كل زاد قابل للزيادة و النقصان، بل قد يتعرض للنفاد، لزم أن يحرص كل منا على تجديده وزيادته و المحافظة عليه من النقصان و النفاد ، وكما سنرى نجد أن الله قد يسر لنا الأسباب، وفي كل الأوقانت دون عوائق .
القرآن :
ومن أهم وأيسر وأغزر الوسائل وأكثر فيضاً كتاب الله العزيز؛ فهو معين لاينضب من الزاد، بل إننا نجد فيه أيضاً التوجيه إلى غيره من الوسائل التى نتزود بها ، إننا نجد فيه النور و الهداية و الرحمة و الذكر .
فالقرآن يرشدنا إلى أن تلاوته من أفضل الوسائل للتزود بالإيمان وتقوى الله، ويرشدنا إلى توحيد الله الذى يحقق السلام و الطمأنينة داخل النفس، ويوجهنا إلى عبادة الله التى تكسب صاحبها الزاد المتجدد من تقوى الله، ويدعونا إلى التفكر في خلق الله فنتعرف من خلاله على صفات الله فيتولد تعظيمنا وإجلالنا وتقديسنا لله سبحانه وتعالى، وفي ذلك خير زاد من الإيمان بالله وتقواه، وفي القرآن نجد العظة والعبرة من قصص السابقين من الرسل وأقوامهم مما يزودنا بالخبرة و الحكمة ونحن ندعو الى الله .
والقرآن يطلب منا طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به وفى ذلك خير عون وإرشاد في الطريق، وفي القرآن التوجيه إلى فعل الخير و الحث عليه
والتحذير من الشر و البعد عنه، وفيه التذكير باليوم الآخر والبعث و الحساب والجزاء، فيه الترغيب في الجنة و التبشير بها، والترهيب من النار، والتنفير منها ، وبالجملة نجد فى القرآن كل خير يحتاجه الإنسان لتتحقق له السعادة والآخرة ويحفظه وينجيه من العنت و الشقاء في الدنيا ومن عذاب الآخرة ، كما أن فيه كل مقومات التربية التى تصنع رجال العقيدة وتفجر فيهم طاقات الخير :{ إن هذا القرآن يهدى للتى هي أقوم } ، { هذا بصائر للناس وهدى وموعظة للمتقين } :{ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } ، :{ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين } ، :{ قد جاءكم من الله نورٌ وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور بإذنه ويهديهم الى صراط مستقيم } .
من الجاهلية إلى الإسلام :
لو تساءلنا ما الذى جدَّ على الجزيرة العربية وغيَّر تلك الأمة من الجاهلية التى كانت عليها بكل ألوان فسادها وضلالها إلى خير أمة أخرجت للناس، وصنع منها رجالاً بل نماذج فذة ضربت أروع الأمثلة في كل ميادين الخير ؟ لو نظرنا لوجدنا أن الذى جدَّ على الجزيرة هو نزول هذا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل به الأمين جبريل على الأمين محمد صلى الله عليه وسلم؛ فبلغه بأمانة الى الناس ثم تربى من آمن من المسلمين فى مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مائدة القرآن ، فغيرهم القرآن وصنع منهم تلك النماذج التى قامت على أكتافها الدولة الإسلامية، وتمت على أيديهم الفتوحات الإسلامية، وعم النور وتبدد الظلام، رأينا من استحوذت عليهم العقيدة الإسلامية، وتحملوا صنوف العذاب دون أن يتخلوا عنها، واسترخصوا أرواحهم وأموالهم في مقابل ثباتهم على عقيدتهم؛ فياسر وسمية وبلال وصهيب وغيرهم رضى الله عنهم جميعاً نماذج رائعة ستظل مضرب الأمثال على مر الأجيال .
راينا رجالاً ضربوا المثل في مجاهدة أنفسهم والترفع بها عن كل قبيح والتحلى بكل خلق فاضل، ضربوا الأمثال في الصدق، والوفاء، والأمانة، والحلم، والزهد
والحب، والإيثار، والجهاد، ومجالدة الأعداء، والجود، وإقامة العدل، والشعور بالمسئولية، خرج من الشباب من كان أهلاً لقيادة الجيوش كأسامة بن زيد رضى الله عنهما .
القرآن بين أيدينا :
ها هو ذا القرآن بين أيدينا دون تحريف فقد تعهد الله بحفظه: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } وها هي ذى مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماثلة أمامنا فى سيرته وسنته ، فهل يمكن أن تغير وتتخرج منا نماذج شبيهة بتلك النماذج ؟
أقول: نعم لو أننا تعاملنا مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما تعامل المسلمون الأول .
كان المسلمون الأول يعظمون القرآن حين يسمعونه أو يتلونه لأنه كلام الله العظيم الكبير المتعال، ويقدرون فضل الله ولطفه بخلقه في إيصال معاني كلامه إلى أفهام خلقه في طيّ حروف وأصوات هي من وسائل البشر، كانوا يستمعون إليه بقلوب حاضرة وبتدبر وتفهم، متخلين عن كل موانع الفهم، يسمعه كل واحد منهم وكأن الله يخصه فيه بكل أمر أو نهى ، متأثرين بكل ما فيه من عظات وعبر وزواجر ومبشرات كلما سمعوا نداء :{ يا أيها الذين آمنوا } أصغوا فى انتباه واهتمام كبير بما سيأتى بعد هذا النداء من توجيه أو أمر أو نهى لينزلوا عليه وينفذوه بكل دقة وتسليم مطلق ورضاً كامل دون تردد أو تراخ ، فإنه ليس نداء أحد من البشر ولكنه نداء من الله خالق البشر صاحب الملك و الجبروت ، هكذا كان حالهم مع كتاب الله ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يدعوهم إليه ويأمرهم به أو ينهاهم عنه؛ فقد أيقنوا أنه صلى الله عليه وسلم لاينطق عن الهوى ولكن بوحي وتوجيه من الله .
{ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } ، { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } ، { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } ، { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } :{ من يطع الرسول فقد أطاع الله } وبذلك صار قرآناً حياً يمشى على الأرض وكانوا يستعينون بالعمل على الحفظ لا بالحفظ على العمل .
أما مسلمو اليوم، فقد ورثوا الإسلام دون جهد أو معاناة، ورثوه مجتزأ محشوا بالبدع و الخرافات، ورثوه وقد سلب منه جوهره وحيويته، ورثوه في فتور وضعف وخمول، لم يقدروا منزلتهم بهذا الدين الحق، لم يستشعروا عظمة هذا القرآن باعتباره كلام رب العالمين، هجروه وأعرضوا عنه وإذا استمعوا إليه لم يتدبروه، أو يتأثروا به، أو ينزلوا على أوامره ونواهيه، وإنما شغلهم نغم القارىء وألحانه، وكأنهم يسمعون مغنياً، وتسمع لهم جلبة وضوضاء تعبيراً عن إعجابهم بصوت القارىء، ولو تدبروا وتأثروا لأنصتوا في خشوع كأمر الله تعالى: { وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } وبئس هؤلاء القراء الذين يعجبون بهذا التهريج، ولو احترموا القرآن لطلبوا من المستمعين الإنصات فإن أبوا وقفوا عن القراءة.
إن كثيراً من مسلمى اليوم ألهتهم الحياة الدنيا، وزحمت عليهم أفئدتهم وعقولهم، وصارت حوائل تمنع نور القرآن من أن يشع في قلوبهم فيضيئها بنور الإيمان:
{ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } .
أضف تعليقك