وائل قنديل
ماذا لو عاد صمويل بيكيت وألبير كامو، وكل من لحق بهما على درب الكتابة العبثية في خمسينيات القرن العشرين، إلى الحياة الآن وشاهدوا دراما الاحتلال الروسي لأوكرانيا، وتباين المواقف منه؟
أغلب الظن أن مؤسسي مسرح العبث بعد الحرب العالمية في منتصف القرن العشرين لو اطلعوا على ما يدور الآن لملئوا منه عجبًا ودهشًة، ووجدوا ما كان يكتبونه في القرن الماضي أكثر منطقية واتساقًا وترابطًا مما يشاهدون في هذه اللحظة، والذي يبدو عبثيًا وغارقًا في الخيال والفانتازيا أكثر من العبث ذاته.
المسألة الروسية الأوكرانية من الوضوح بما يكفي لكي تحدد موقفًا منها، إذ يقول التاريخ إن أوكرانيا انفصلت عن المشروع السوفييتي، واستقلت بذاتها، دولًة ذات سيادة في منتصف يوليو/ تموز 1991، بعد شهر واحد فقط من اتخاذ روسيا الخطوة ذاتها والإعلان عن نفسها دولة مستقلة عن الاتحاد السوفييتي المتساقط، بأسرع من تساقط حجارة سور برلين في العام 1989.
وكما فعلت روسيا وأوكرانيا، سلكت كل مكونات الاتحاد السوفييتي السابق، فصارت دولًا مستقلة لها سيادتها وسياستها الخاصة بها، وتحالفاتها وعلاقاتها البينية والدولية على النحو الذي تجد فيه مصلحتها.
على ضوء ذلك، يصبح اجتياح القوات الروسية الأراضي الأوكرانية بهدف إخضاعها لسيادة موسكو عدوانًا على شعب واحتلالًا لأرضه، بصرف النظر عن رأينا في هذا تركيبة هذا الشعب ورئيسه، ذي الهوى الصهيوني الصريح، والذي يمرح في حدائق العبث هو الآخر حين يستجير من الاحتلال الروسي لبلاده بالاحتلال الصهيوني لفلسطين، بل ويعتبره الوسيط المناسب لاستضافة مفاوضات إنهاء الأزمة، فوق الأرض المغتصبة، والتي شهدت فظاعات وويلات تفوق بكثير ما يدور على الأراضي الأوكرانية حاليًا، مع فارق جوهري هو أن المجتمع الغربي الذي ينتحب حزنًا وألمًا على الشعب الأوكراني، كان داعمًا بكل الوسائل لعمليات اقتلاع الشعب الفلسطيني من تاريخه وجغرافيته، وتثبيت عصابات غزو واحتلال مكانه. .. لكن، هل تصلح هذه المفارقة، أو هذا الازدواجية في المعايير، سببًا كافيًا للتصفيق لغزو روسيا أوكرانيا واحتلالها وتهجير شعبها؟
بكل الاعتبارات، أزعم أن الإجابة بالنفي، وإلا فنحن نقر بمبدأ الاحتلال والغزو ونرضخ لمنطق القوة المتغرطسة في إلغاء حق الشعوب في مقاومة العدوان عليها، وبالتالي فدعم كل احتلال في أي مكان في العالم هو، كذلك، تأييد للاحتلال الصهيوني لفلسطين بطريق غير مباشر، وهو أيضًا ابتذال شديد لقضية فلسطين، أقدس القضايا وأكثرها نصوعًا في التاريخ، كما أنه تسفيه من فكرة المقاومة، حين تذهب أصوات إلى أن رئيس أوكرانيا أضر ببلاده وبشعبه حينما تحدى روسيا ورفض إملاءاتها، من دون أن يراعي الفوارق الهائلة في موازين القوى.
من صور العبث فيما يجري أيضًا هو موقف رئيس الشيشان، الداعم والمشارك في الاحتلال الروسي للمدن الأوكرانية، وهو ابن رئيس الشيشان السابق الذي استشهد دفاعًا عن سيادة وحرية بلاده أمام الغزو الروسي الهمجي، لكن الأشد عبثية هو موقف العواصم العربية التي كونت وسلحت ومولت، بالتجنيد والإنفاق، المقاومة الأفغانية للاحتلال السوفييتي في ثمانينات القرن الماضي، وسيرت قوافل الجهاد ضد الغزو الشيوعي، وأعلنتها حربًا بين الإسلام والكفر.
هذه العواصم تبدو في كلامها وصمتها، في حركتها الدبلوماسية وسكونها، كمن يرى في العدوان الروسي على أوكرانيا فتوحات تستحق المساندة، وجهادًا يستوجب الدعم، أو على الأقل عدم الممانعة، فيتحول إعلامها الذي كان يجاهد نصرًة لأفغانستان على السوفييت، إلى الجهاد تسويقًا للمنطق الروسي في غزوة أوكرانيا.
يضحكك ذلك اللا منطق العبثي الذي يستند إليه بعض “عرب الجهاد الروسي” حين يبررون الانحياز لروسيا باعتباره الخيار الأفضل لمصالحنا، بأن أوكرانيا تضايق روسيا وتهدد أمنها القومي بذهابها إلى طلب عضوية حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، كما أن رئيسها منحاز للمشروع الصهيوني، من دون أن ينتبهوا إلى أن دعمهم المشروع الصهيوني لا يقل كثيرًا عن دعم زيلينسكي، كونهم يتسابقون للفوز بالاحتلال الإسرائيلي صديقًا وشريكًا، وحليفًا محتملًا.
حسنًا، مع افتراض أن قرب الرئيس الأوكراني من الاحتلال الصهيوني يكفي لاتخاذ موقف مؤيد للعدوان الروسي، فإن الإقرار بهذه المعادلة يأخذك على الفور إلى تأييد القصف الإيراني لأراضي كردستان العراق، أو أي أراض عربية أخرى، بحجة أن حكومتها تقيم علاقات مع الكيان الصهيوني.
الشاهد أنه لا يمكنك أن تتواطأ مع الاحتلال الروسي الأراضي الأوكرانية، ثم تنهى العالم عن تواطئه مع الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية.
ضد كل احتلال، ومع كل مقاومة، في أي مكان وزمان.
المصدر: العربي الجديد
أضف تعليقك