منهج للبشر
هناك حقيقة أولية عن طبيعة هذا الدين، وطريقة عمله في حياة البشر... حقيقة أولية بسيطة... ولكنها مع بساطتها، كثيراً ما تنسى، أو لا تدرك ابتداء. فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين: حقيقته الذاتية وواقعه التاريخي. حاضرة ومستقبله كذلك!.
إن البعض ينتظر من هذا الدين- ما دام منزلاً من عند الله- أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب! ودون أي اعتبار لطبيعة البشر، ولطاقاتهم الفطرية، ولواقعهم المادي، في أي مرحلة من مراحل نموهم، وفي أية بيئة من بيئاتهم.
وحين لا يرون أنه يعمل بهذه الطريقة، وحين يرون أن الطاقة البشرية المحدودة، والواقع المادي للحياة الإنسانية، يتفاعلان معه، فيتأثران به - في فترات - تأثراً واضحاً، على حين انهما في فترات أخرى يؤثران تأثيراً مضاداً لاتجاهه، فتقعد بالناس شهواتهم وأطماعهم، وضعفهم ونقصهم، دون تلبية هتاف هذا الدين، أو الاتجاه معه في طريقه..
حين يرون هذا فانهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها - ما دام هذا الدين منزلاً من عند الله - أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته. أو يصابون بالشك في الدين إطلاقاً!.
وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد أساسي: هو عدم إدراك هذا الدين وطريقته، أو نسيان هذه الحقيقة الأولية البسيطة.
إن هذا الدين منهج إلهي للحياة البشرية. يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية؛ وفي حدود الواقع المادي حينما يتسلم مقاليدهم. ويسير بهم إلى نهاية الطريق في حدود طاقتهم البشرية، وبقدر ما يبذلونه من هذه الطاقة.
وميزته الأساسية: انه لا يغفل لحظة، في أية خطة وفي أية خطوة عن فطرة الإنسان وحدود طاقته ، وواقع حياته المادي أيضاً. وأنه - في الوقت ذاته- يبلغ به - كما تحقق ذلك فعلاً في بعض الفترات، وكما يمكن أن يتحقق دائماً كلما بذلت محاولة جادة - إلى ما لم يبلغه أي منهج آخر من صنع البشر على الإطلاق . و في يسر وراحة وطمأنينة واعتدال.
ولكن الخطأ كله - كما تقدم - ينشأ من عدم إدراك طبيعة هذا الدين أو من نسيانها. ومن انتظار الخوارق المجهولة الأسباب على يديه...تلك الخوارق التي تبدل فطرة الإنسان، ولا تبالي طاقاته المحدودة، ولا تحفل واقعه المادي البيئي ! أليس هو من عند الله؟ أليس الله قادرا على كل شيء؟ فلماذا إذن يعمل هذا الدين - فقط- في حدود الطاقة البشرية المحدودة؟ وتتأثر نتائج عمله بالضعف البشري؟ بل لماذا يحتاج أصلا إلى الجهد البشري؟ ثم... لماذا لا ينتصر دائماً، ولا ينتصر أصحابه دائماً؟ لماذا تغلب ثقلة الضعف والشهوات والواقع المادي على رفرفته وشفافيته وانطلاقته أحياناً؟ ولماذا يغلب أهل الباطل على أصحابه - وهم أهل الحق - أحياناً!!
وكلها - كما ترى - أسئلة وشبهات، تنبع ابتداء من عدم إدراك الحقيقة الأولية لطبيعة هذا الدين وطريقته... أو من نسيانها!.
إن الله قادر - طبعاً - على تبديل فطرة الإنسان، عن طريق هذا الدين أو عن غير طريقه. ولكنه - سبحانه - شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة لحكمة يعلمها. وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد والرغبة في الهدى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " ... وشاء أن تعمل فطرة الإنسان دائماً، ولا تمحى ولا تعطل: " و نفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها ".. وشاء أن يتم تحقيق منهجه الإلهي للحياة البشرية عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "... " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " وشاء أن يبلغ الإنسان من هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد، وما يُـنفق من الطاقة، وما يصبر على الابتلاء في تحقيق هذا المنهج الإلهي القويم، وفي دفع الفساد عن نفسه وعن الحياة من حوله: "احسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعملن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ".
وليس لأحد من خلق الله أن يسأله - سبحانه - لماذا شاء هذا كله على هذا النحو الذي أراده فكان. ليس لأحد من خلقه أن يسأله - سبحانه - ما دام أن أحداً من خلقه ليس إلهاً، وليس لديه العلم، ولا إمكان العلم - بالنظام الكلي لهذا الكون؛ ومقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود.
ولماذا؟ - في هذا المقام - سؤال لا يسأله مؤمن جاد، ولا يسأله ملحد جاد… المؤمن لا يسأله، لأنه أكثر أدباً مع الله - الذي يعرفه بذاته وصفاته وخصائصه - وأكثر معرفة بطبيعة إدراكه البشري وحدوده، وأنه لم يهيأ للعمل في هذا المجال… والملحد الجاد لا يسأله، لأنه لا يعترف بالله ابتداء، فإن هو اعترف بألوهيته عرف معها أن هذا شأنه - سبحانه - ومقتضى ألوهيته، وأنه : " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ". لأنه وحده المهيمن العليم بما يفعل.
ولكنه سؤال قد يسأله هازل مائع. لا هو مؤمن جاد، ولا هو ملحد جاد. ومن ثم لا يجوز الاحتفال به، ولا أخذه مأخذ الجد... وقد يسأله جاهل بحقيقة الألوهية وخصائصها. فالسبيل لتعليم هذا الجاهل ليس هو الإجابة المباشرة. إنما هو تعريفه بحقيقة الألوهية وخصائصها... حتى يعرفها ويسلم بها فهو مؤمن. أو يجحدها وينكرها فهو ملحد... وبهذا ينتهي الجدل... إلا أن يكون مراء ! والمسلم منهيّ عن المضى في الجدل حتى يكون مراء!.
والخلاصة التي ننتهي إليها من هذا الاستطراد في هذه الفقرة: هي أنه ليس لأحد من خلق الله أن يسأله - سبحانه - لماذا شاء أن يخلق " الإنسان " بهذه الفطرة ؟ ولماذا شاء أن يبقي فطرته هذه عاملة لا تمحى ولا تعطل ؟ لماذا شاء أن يجعل المنهج الإلهي لحياته البشرية يتحقق عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية، والواقع المادي لحياته؟ ولم يشأ أن يجعله يتم بوسيلة خارقة، وبأسباب مبهمة غامضة!.
ولكن لكل أحد من خلقه أن يدرك هذه الحقائق ويعرفها؛ ويراها وهي تعمل في واقع الحياة البشرية. ويفسر أحداث التاريخ البشري على ضوئها. فيفقه خط سيرها التاريخي من ناحية؛ ويعرف كيف يواجه هذا الخط ويوجهه من ناحية أخرى. ويعيش مع حكمة الله وقدره، فينطبع بهما الانطباع الصحيح من ناحية ثالثة.
هذا المنهج الإلهي، الذي يمثله "الإسلام" في صورته النهائية، كما جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، لا يتحقق في الأرض، وفي دنيا الناس، بمجرد تنزله من عند الله. لا يتحقق بكلمة: "كن" الإلهية، مباشرة لحظة تنزله. ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه. ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب.
إنما يتحقق بأن تحمله جماعة من البشر. تؤمن به إيماناً كاملاً، وتستقيم عليه - بقدر طاقتها- وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بكل ما تملك... تجاهد الضعف البشري والهوى البشري في داخل النفوس. وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى للوقوف في وجه الهدى... وتبلغ - بعد ذلك كله - من تحقيق هذا المنهج، إلى الحد الذي تطيقه فطرة البشر، والذي يهيئه لهم واقعهم المادي. على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها فعلاً، ولا تغفل واقعهم، ومقتضياته في سير وتتابع مراحل هذا المنهج الإلهي... ثم تنتصر هذه الجماعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة. وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة.. بقدر ما تبذل من الجهد . وبقدر ما تتخذ من الوسائل المناسبة للزمان ولمقتضيات الأحوال. وقبل كل شيء... بمقدار ما تمثل هي ذاتها من حقيقة هذا المنهج، ومن ترجمته ترجمة عملية في واقعها وسلوكها الذاتي.
هذه هي طبيعة هذا الدين وطريقته... وهذه هي خطته الحركية ووسيلته.. وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة وهو يقول لها: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ". " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ". " والذين جاهدوا فينا يهدينهم سبلنا ".
وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة في غزوة أحد حينما قصرت في تمثيل حقيقة هذا الدين في ذوات أنفسها في بعض مواقف الغزوة. وحينما قصرت في اتخاذ الوسائل المناسبة في بعض مواقفها. وحينما غفلت عن هذه الحقيقة الأولية أو نسيتها. وفهمت أن من مقتضى كونها مسلمة أن تنتصر حتماً! فقال لها الله سبحانه: " أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ". وقال لها. " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر، وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة.. ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ".
ولقد تعلمت الجماعة المسلمة هذه الحقيقة في هذه الغزوة، لا بالكلام ولا بالعتاب، ولكن تعلمتها مع هذا بالدماء وبالآلام. ودفعت ثمنها غالياً: هزيمة بعد نصر. وخسارة بعد غنم. وجراحاً لم تكد تدع أحداً معافى. وشهداء كراماً فيهم سيد الشهداء حمزة - رضى الله عنه - وأغلى من ذلك كله وأشد وقعاً على الجماعة المسلمة كلها جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشج وجهه الكريم، وكسر رباعيته في فمه، ووقوعه لجنبه في الحفر التي حفرها أبو عمرو الفاسق حليف قريش مكيدة للمسلمين، وجهد المشركين له -صلى الله عليه وسلم- وهم يطاردونه، وهو مفرد في نفر من أصحابه استشهدوا واحداً بعد واحد وهم يذودون عنه، ويترس أحدهم- أبو دجانة- بظهره عليه يقيه نبل المشركين، والنبل يقع في ظهره فلا يتحرك... حتى ثاب إليه المؤمنون من هزيمتهم وحيرتهم، وهم يتلقون هذا الدرس الشاق المرير!.
على أنه من الملاحظ الواضح أن ترك المنهج الإلهي للجهد البشري، يتولى تحقيقه في حدود الطاقة البشرية، يصلح النفوس البشرية، ويصلح الحياة البشرية.. نقول هذا لا لنعلل به مشيئة الله - سبحانه- في جعل الأمر على ما جعله. ولكن لنسجل - فقط - ملاحظة واقعية لآثار هذه المشيئة في حياة العباد.
ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. مجاهدتهم بالقلب بكراهة باطلهم وجاهليتهم والعزم على نقلهم منها إلى الحق و الإسلام. ومجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان. ورفض باطلهم الزائف، وتقرير الحق الذي جاء به الإسلام. ومجاهدتهم باليد بالدفع والإزالة من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية والبطش الغشوم!.. وحتى يتعرض في تلك المجاهدة للابتلاء والأذى، والصبر على الابتلاء والأذى، والصبر على الهزيمة والصبر على النصر أيضاً - فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة. ثم يثبت ولا يرتاب، ويستقيم ولا يتلفت، ويمضي في طريق الإيمان راشداً صاعداً.
حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان لأنه يجاهد نفسه كذلك في أثناء مجاهدته للناس؛ وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبداً وهو قاعد آمن ساكن، وتتبين له حقائق في الناس وفي الحياة لم تكن لتتبين له أبداً بغير هذه الوسيلة. ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته، وبعاداته وطباعه وانفعالاته واستجاباته، ما لم يكن ليبلغه أبداً بدون هذه التجربة الشاقة العسيرة.
وهذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ". وأول ما تفسد: فساد النفوس بالركود الذي تأسن معه الروح، وتسترخي معه الهمة، ويتلفها الرخاء والطراوة،. ثم تأسن الحياة كلها بالركود. أو بالحركة في مجال الشهوات وحدها. كما يقع للأمم حين تبتلى بالرخاء!
فهذه كذلك من الفطرة التي فطر الله الناس عليها. لقد جعل صلاح هذه الفطرة في المجاهدة لإقرار منهج الله للحياة البشرية، عن طريق الجهد البشري، وفي حدود الطاقة البشرية كذلك.
ثم إن هذه المجاهدة ومن يصاحبها من الابتلاء، هي الوسيلة العملية لتمحيص الصفوف - بعد تمحيص النفوس - ولتنقية الجماعة من المعطلين والمعوقين والمرجفين، ومن ضعاف النفوس والقلوب، ومن المخادعين والمنافقين والمرائين. وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة وهي تتعرض للامتحان، وتتعرض للابتلاء، وتتكشف فيها خفايا النفوس، كما تتميز فيها الصفوف،. تحت مطارق الابتلاء ومشقة التجربة، ومرارة الآلام.
وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة، وهو يعقب على أحداث الغزوة. فيقول لها، رداً على سؤال المسلمين: " أنى هذا؟" "قل: هو من عند أنفسكم ".. ثم يعقب على هذا بقوله: " وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله. وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا ".. " وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب".. " وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين "... كل ذلك ليستقر في حسهم أنه مع أن ما أصابهم كان بسبب تقصيرهم في تمثيل حقيقة الإيمان كاملة في مشاعرهم وتصرفاتهم في الغزوة.. فانه كذلك كان لخيرهم في النهاية بفضل الله عليهم، وتجاوزه عن تقصيرهم، واتخاذ نتائجه مادة لتعليمهم وتمحيصهم وتطهيرهم، وتمييز صفوفهم... وكله خير لأنفسهم ولحياتهم في نهاية المطاف...
ولا يتم تمام القول في طبيعة هذا الدين وطريقته، حتى نضيف إلى تلك الحقيقة التي نرجو أن نكون قد كشفنا عنها في هذا البيان... تكملة ضرورية لها لابد من بيانها كذلك:
إن كون هذا المنهج الإلهي متروك تحقيقه للجهد البشري، في حدود الطاقة البشرية، وفي حدود الواقع المادي للحياة الإنسانية في شتى المدارج، وشتى البيئات.. لا يعني استقلال الإنسان نهائياً بهذا الأمر، وانقطاعه عن قدرة الله وتدبيره، ومدده وعونه وتوفيقه وتيسيره.. فتصور الأمر على هذا النحو مخالف في أصوله لطبيعة التصور الإسلامي.
ولقد بينا فيما سلف أن الله -سبحانه - يساعد من يجاهد للهدى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا "... وأنه يغير حال الناس حين يغيرون ما بأنفسهم، وأنه لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ".
وهذان النصان يوضحان لنا العلاقة بين الجهد البشري الذي يبذله الناس، وعون الله ومدده الذي يسعفهم به، فيبلغون به ما يجاهدون فيه من الخير والهدى والصلاح والفلاح.
فإرادة الله هي الفاعلة في النهاية، وبدونها لا يبلغ "الإنسان" بذاته شيئاً، ولكن هذه الإرادة تعين من يعرف طريقها، ويستمد عونها ويجاهد في الله ليبلغ رضاه.
وقدر الله - مع ذلك كله - هو الذي يحيط بالناس والأحداث، وهو الذي يتم وفقه ما يتم من ابتلاء، ومن خير يصيبه الناجحون في هذا الابتلاء.
وهذه هي الحقيقة التي شاء الله - سبحانه- أن يعلمها للجماعة المسلمة. وهو يبين لها في التعقيب على غزوة أحد أسباب النصر وأسباب الهزيمة - من عملها - ثم يكشف لها عن حكمة الله من وراء الابتلاء كله، ومن وراء النصر والهزيمة: وعن تدبيره كذلك " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه. حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر، وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ". وليعرفهم سنته الشاملة. ومردها في النهاية إلى مشيئته الطليقة وقدره النافذ من وراء الأسباب والوقائع: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. وتلك الأيام نداولها بين الناس. وليعلم الله الذين آمنوا، ويتخذ منك شهداء. والله لا يحب الظالمين. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين".
وإذن فهو - في النهاية - تدبير الله ومشيئته وقدره، ليتم ما يريده من وراء الأسباب والأحداث. وهو الأمر الذي لا يسأل عنه سبحانه: لأنه شأنه الإلهي، الذي لا يسأل عنه... وهذه هي حقيقة الإيمان الكبرى التي لا يتم في النفس إلا باستقرارها فيها، واطمئنانها إليها... وهي التكملة التي لابد منها لما قررناه في هذا الفصل عن طبيعة هذا الدين وطريقته ... بلا تعارض بين طرقي هذه الحقيقة في حسن المسلم، الذي يتذوق قلبه حقيقة هذا الدين، كما أنزلها الله. ولا يعارضها بتصورات ومقررات ليست مستقاة من كتاب الله.
من كتاب "هذا الدين" للشهيد سيد قطب رحمه الله.
أضف تعليقك