الشورى عندنا ملزمة:
والشورى هي التي تفرق بين مجتمعين: مجتمع ظالم أهله، ومجتمع الأمن والإيمان، فالمجتمع الأول ترى فيه من يقول: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبل الرشاد، فإن كانت هذه مقولة حاكمهم، فإن مقولة الأتباع نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين.
ولذلك ينبغي على قيادة العمل الإسلامي ألا تسلك هذا المسلك الذي يحطم إرادة الرجال ويمنع تفكيرهم، فلا يجوز أن تفرض رأياً وتهدر الشورى، وتنفرد بالنظر بل لابد لها من أن تقتدي بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، ومن تبعهم بإحسان وتلتزم بالشورى، وتتخلص من مظاهر السلوك الفردي المتمثل في إصرار كل ذي رأي على رأيه وكل ما يصادف في النفس هوى وقبولا، وسوء الظن بمقدرة الآخرين وأهليتهم في التفكير والرؤية، والاعتصام بمبدأ ما أريكم إلا ما أرى.
فليست هناك فكرة أو رأى أو أسلوب يمكن أن نحيطه بهالة من التقديس، أن نضعه في إطار زجاجي شفاف ونكتب عليه: ممنوع اللمس أو الاقتراب، والموقف الصائب في ذلك ما ذهب إليه الإمام مالك رضي الله عنه وهو يقول: إنما أنا بشر اخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.
وعلى هذا ففي وسع أي إنسان –بتوفيق الله- أن يرشد إلى ما فيه الصلاح والسداد، ما دام سلك الطريق المستقيم، ويبتغي الهدى السامي ملتزماً بتوجيهات الإسلام وضوابطه.
وقد أصبح هذا الأسلوب أمراً مستقراً لدى المسلمين، ففي ما رواه سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه منك سنة، قال: اجمعوا له العالمين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد".
الشورى والنصيحة:
وتتكامل الشورى مع النصيحة ولا يختلطان، فالنصيحة تجوز من فرد واحد ذي خبرة، أو أكثر من فرد، وتعطى النصيحة، أو تطلب أثناء الشورى، أو في أعقابها، عند تنفيذ القرار، مثل النصيحة التي أدلى بها الحباب بن المنذر، عندما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظم الجيش استعداداً للمعركة فقال: "يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: "يا رسول الله، فإن هذا ليس منزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور (أي ندفن ونطمس) ما وراءه من القلب (أي الآبار). ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.. فقبل رسول الله نصيحته وعمل بها.
ومن المواقف التي أعطيت فيها النصيحة أيضاً، حفر الخندق في الأحزاب بناء على نصيحة سلمان الفارسي، ومبادرة رسول الله بنحر الهدى والحلف في أعقاب صلح الحديبية بناء على نصيحة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، أما عن موضوع الشورى، فهو فيما لا نص فيه، فإذا كانت الشورى ضرباً من ضروب الاجتهاد، له خصوصيته، فهي عمل عقلي بشري لا يجوز الأخذ بها مع وجود النص الموحى به، ما دام نصاً قطعي الدلالة.. وهذا ما يخصص عموم قول الله تعالى: (وشاورهم في الأمر) [آل عمران: 159] فلا مكان للشورى حال وجود نص، كما قال علماء أصول الفقه: "لا اجتهاد مع نص"، وأوضح مثال على هذا هو عدم قبول رسول الله الشورى في صلح الحديبية، لأنه كان مأموراً بما فعل، فما كان له ولا للمؤمنين إلا الإذعان: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) [النور: 51] ، (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) [الأحزاب: 36].
وأخيراً مرجعيتها: فإن أي قرار يستند إلى مرجعية من منظومة القيم، ومبادئ عامة، ولا شك أن مرجعية الشورى الإسلامية تختلف بالضرورة عن غيرها، فالإسلام منظومة قيمية، ومبادئه العامة المستمدة من مصدريه: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وهذه أمور تميز الشورى الإسلامية عن غيرها من صور الشورى قديمها وحديثها.
إن استئناف الحياة الإسلامية المثلى يقتضي الانطلاق من أرضية التفاهم والتنسيق، وهو أمر لا يتحقق إلا بتعزيز الدور الإيجابي للشورى والتي يجب أن تمتد عبر مختلف الساحات، وتتقدم على كل الاهتمامات من خلال تبادل الآراء واستقاء التجارب، والاستفادة من الخبرات.
وهذا كفيل بأن يجنبنا مزالق التشتت والشقاق والتشرذم القاتل، الذي كثيراً ما يأتي على ما نبنيه من القواعد، ويجهض كل محاولة في سبيل الاعتصام بحبل الله المتين.
والشورى تلزم المشارك فيها بوجه عام، والقيادة بوجه خاص أن تجتهد وتتحرى للوصول إلى الصواب، ولكي تدخل القيادة في زمرة المجتهدين، لابد أن يكون لديها الحد الأدنى من شروط الاجتهاد، ولا أعني بها هنا شروط الاجتهاد الفقهي المذكور في كتب أصول الفقه، بل لكل موضوع يجتهد في الشؤون العسكرية، أو الاقتصادية أو التربوية، إلى جوار ما لابد منه من الشروط العلمية والفكرية العامة.
فأما مَنْ هجم على أمر لا يحسنه، وحكم فيه بغير بينة، ولا سلطان، فقد أساء إلى نفسه، وإلى موضوعه وإلى الناس، ولم ينل من الأجر نقيراً ولا قطميراً، بل اكتسب إثماً مبيناً لقوله بلا علم، وخوضه فيما لا اختصاص له به، بل يدل ذلك على ضعف الإخلاص لديه.
ولهذا جاء في الحديث: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد الجنة، رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس عن جهل، فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار".
فجعل الذي يقضي على جهل في النار، كالذي يقضي بالباطل على علم، لأنه أدخل نفسه فيما لا يحسن، وكان الواجب عليه أن ينسحب من موقعه ويدعه أو يستعين بمن هو أهله.
بل مثل هذا، عن أصاب، فصوابه غير محسوب له، لأنه رمية من غير رام، واجتهاد من غير أهل، فلا قيمة له لافتقاده سلامة المنهج.
وعلى هذا فإن على القيادة أن تبذل الجهد وتستفرغ الوسع في تحري الحقيقة، وطلب الصواب بكل الإمكانات المتاحة وكل الوسائل المعينة، وكل المعلومات المتوافرة للوصول إلى الصواب، وعليها بعد ذلك أن تستشير أولى النهى وتستعين برأيهم وتشاورهم في المر طلباً للرأي الأسد، والعمل الأرشد.
فإذا تم التشاور فعلى الجميع أن ينزل على الرأي الذي اتفق عليه، ويلتزم به ويخلص له، وليس له أن يخرج عنه، لأن الشورى ملزمة عندنا، أما إذا كان ممن لا يلتزمون بمنهجنا ولا يسيرون في طريق دعوتنا، فنقول لهم مقولة الإمام البنا رضي الله عنه: "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه" لهذا كله كانت الشورى عند الإمام البنا ملزمة، وكان على الأتباع أن يلتزموا بهذه الاختيار الفقهي لأنه من ثوابت الجماعة.
منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات للأستاذ جمعة أمين عليه رحمة الله.
أضف تعليقك