بقلم.. عامر شماخ
عاد صديقى المحبط من جديد ليقنعنى بمبررات يأسه وبؤسه.. وبعد حوار طويل استنفد طاقتى وأضاق صدرى، وقد ظننت أنه استقام وودّع الإحباط، رمانى بقوله: «لماذا تكتب؟ ولمن تكتب؟ ألم تملّ؟ وهل تتصور أن هناك جدوى فيما تسطره وهو كثير؟ بل هل أنت مقتنع بأن هناك من يقرؤك؟»، وعقّب بالمثل: «على من تقرأ مزاميرك يا داود؟». والمثل يعنى: (مفيش فايدة؛ أنت بتنفخ فى قربة مقطوعة؛ لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا… ولكنْ لا حياةَ لمن تنادى؛ إلخ).
قلت له: يا أخى! إنّا لا نأخذ مناسكنا من أمثالٍ جاهليةٍ أو أقوالٍ قبليةٍ، بل لنا منهاج وشِرعة، وكتابٌ وسنة ولن نضل عنهما إن شاء الله. وهذه وتلك تأمرنا بأشياء وتنهانا عن أشياء؛ تأمرنا بالبلاغ وتنهانا عن السكوت، وتأمرنا بالقوة وتنهانا عن العجز، وتأمرنا بالشجاعة وتنهانا عن الخور والجبن، وقد مدح الله أقوامًا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر رغم ما قام به أمثالك ممن لم يروا فائدة فى النصح والإرشاد؛ قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأعراف: 164]، وقد وقع بعدها ما وقع مما هو فى ناموس الله الذى لا يتبدل ولا يتغير؛ (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 165].
يا أخى! إننى أكتبُ ما أكتبُ حسبة لله، وأرجو قبوله، رغم ما أصابنا وما قد يقع، نسأل الله النجاة، مبشرًا غير منفِّر، مستنًّا بالنجوم، صحابة النبى (رضوان الله عليهم)؛ إذ لما رأوا الأحزاب قالوا: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22]، بريئًا من فعل المنافقين الذين قالوا: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) [الأحزاب: 12]، سالكًا طريق مؤمن آل فرعون الذى داوم النصح والإشفاق على القوم الآخرين فلم ييأس؛ (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر: 44].
إن عينك التى ترى بها أيها اليائس عينٌ معتلَّة، وعاطفتك التى تحكِّمها فى الأمور عاطفة مختلَّة؛ فإن كنت ترى ألا جديد تحت الشمس فلأن منظارًا أسود يدارى رؤيتك، أما الأصحاء فيرون واقعًا قد تلحلح، ووعيًا قد وصل إلى من أصابهم من قبل عمى البصيرة، مع العلم أن المعركة بين الحق والباطل جولاتها طويلة وأيامها ضروس معقدة، لكن بفضل الله نرى انحسارًا لأهل الباطل يزيد يومًا بعد يوم، ونجد مؤيدين لهم بالأمس يعارضونهم اليوم، والأيام حبلى، وأجل الله إذا جاء لا يؤخر.
إننى لا يهمنى يا أخى من يقرؤنى، فالنية معقودة على أن هذا العمل لله، لا للشهرة أو الكسب، وأنا على يقين أن تلك الكلمات ستصادف يومًا، بإذن الله، من يقيم بها الحجة على الظالمين والمفسدين، ومن تأخذ بيده إلى حيث الفرج والفرح بتحقق موعود الله؛ «ستظل كلماتنا عرائس من الشمع لا روح فيها ولا حياة، حتى إذا متنا فى سبيلها دبَّت فيها الروح وكُتبت لها الحياة». كما قال الشهيد سيد قطب (رحمه الله)، ولا تستعجل يا أخى؛ «فإن حقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد، ولا زال فى الوقت متسع، ولا زالت عناصر السلامة قوية فى نفوس شعوبنا المؤمنة رغم طغيان مظاهر الفساد، والضعيف لا يظل ضعيفًا طول حياته، والقوى لا تدوم قوته أبد الآبدين، (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)». كما قال الإمام الشهيد.
يا أخى! إن الدائرة الكبرى التى تجمع المسلمين هى دائرة الأُخُوَّة فى الله، وهذه الأُخُوَّة أمرٌ أوجبه الدين؛ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10]، وهذه الرابطة لا يتخلى عنها إلا جاهل بتكاليف الإسلام، ومن الأُخُوة: السؤال عن إخوانك، والاهتمام بهم، ونصرتهم، وحل مشكلاتهم، والدعاية لقضاياهم؛ «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»، والقاعدة الفقهية تقرر: «امرأة مسلمة سُبيت فى المشرق، وجب على أهل المغرب تحريرها ولو أتى ذلك على كل أموال المسلمين»، وفى الخبر: «المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم وهم يدٌ على من سواهم».
والناس بحاجة يا أخى إلى من يفتح لهم طاقات الأمل، ويعدهم بالفرج، ويخفف عنهم آلام المصائب وعنت الدهر، وتلك صفة الأنبياء والمرسلين (صلوات الله عليهم أجمعين)، الذين لم ييئسوا ولم يقنطوا رغم ما لاقوه من أذى وضغوط، وسخرية وتبكيت، ألا ترى نوحًا عليه السلام؛ (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) [هود: 38].
يا أخى! إن للشيطان مداخل للتيئيس والإيعاد بالشر: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268]، وعلى المسلم أن يكون يقظًا، لا تهزمه الأحداث، ولا تثنيه الكروب عن مبادئه وقناعاته، بل تزيده قوة وصلابة، والرائد لا يخذل قومه، بل يجب أن يكون أشدهم عزمًا وأقواهم إرادة، ولينظر إلى ردِّ موسى (عليه السلام) على قومه اليائسين (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 129]، وعدهم بالنصر والاستخلاف فى الأرض، رغم ما كانوا فيه من بؤس وضياع؛ ليقينه أن تلك سنة الله فى خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
أضف تعليقك