• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
Nov 12 21 at 03:17 PM

ويكمل العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حديثه عن تعامل الحركة الإسلامية مجال الدعوة مع رجال الأعمال.

رجال المال والأعمال

ومن المجالات التي يجب على الصحوة أن تغزوها وتؤثر فيها: مجال التجار ورجال المال والأعمال؛ فهؤلاء يعيشون ـ إلا من عصم ربك ـ في عالم المادة والأرقام، وحساب الأرباح والخسائر، ودنيا المنافسة والاحتكار والسيطرة على السوق. وهذه العقلية كثيرا ما تنسي صاحبها قيود الحلال والحرام، وكثيرا ما تذهله عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ ولهذا اهتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتوجيههم، وإرشادهم، وتحذيرهم من الرذائل الموبقة للتجار. فحذرهم من الغش (من غش فليس منا). وحذرهم من الاحتكار (من احتكر فهو خاطئ) أي آثم.
وحذرهم من كثرة الحلف، وذم كل تاجر (جعل الله بضاعة، فلا يبيع إلا بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه). وحذر من اليمين الكاذبة (إنها منفقة للسلعة، ممحقة للبركة). وحذر من الربا (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه). وحذر من الغرر مما فيه جهالة تُفضي إلى النزاع؛ فنهى عن بيع الغرر. كما حذر القرآن من التطفيف في الكيل والميزان (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)) سورة المطففين .

كما مدح القرآن التجار الذين لا تشغلهم أموالهم، ولا تجارتهم وأرباحهم عن واجبهم نحو الله تعالى وفرائضه، فقال في رواد المساجد (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ) (سورة النور: آية:36،37).

إن التجار ورجال الأعمال، في أيديهم قسم كبير من ثروة الأمة، وهم يتحكمون في حاجيات الناس وأسعارها، وهم يؤثرون في اقتصادها وسياستها المالية؛ ولهذا يلزم أن يعرفوا ما يحل لهم، وما يحرم عليهم، وما يجب عليهم في أموالهم من زكاة وحقوق بعد الزكاة. لا يجوز النظر إلى التجار على اعتبار أنهم قوم ميئوس منهم، وأنهم خارج نطاق الصحوة، وأن همهم الدنيا ومتاعها.
فالتجار بشر من الناس يؤثر فيهم ـ كما يؤثر في غيرهم ـ النصح والترغيب والترهيب، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وحسن الاتصال الصبور بهم. وفي فجر الدعوة المحمدية، رأينا من التجار من آمن بالله ورسوله، وناصر رسالة التوحيد، وإن عرّضت تجارته وماله كله للضياع. عرفنا منهم أبا بكر الصديق، وعثمان ذا النورين، وعبد الرحمن بن عوف، وهم ممن يعرف المسلمون سبقاً وفضلاً فهم من السابقين الأولين، ومن العشرة المبشرين بالجنة . وقد اضطرتهم الهجرة إلى المدينة، أن يخرجوا من ديارهم، وأموالهم، يبتغون فضلاً من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله، فرحبوا بذلك، ورضوا به في سبيل الله. وفي عصرنا رأينا الكثير من التجار المؤمنين الذي آثروا آخرتهم على دنياهم، وبذلوا لنصرة دينهم طائعين مختارين، ولم يبخلوا بما آتاهم الله من فضله، واعتبروا أنفسهم وأموالهم ملكاً للدعوة الإسلامية، والحركة الإسلامية.
وإذا كان رجال المال في الغرب المسيحي يمدّون مؤسسات التنصير في العالم بالوقود اللازم من التبرعات التي تبلغ آلاف الملايين، ومثلهم رجال المال اليهود الذين بذلوا بسخاء قبل قيام الكيان الصهيوني وبعده،- برغم ما عرف من شح اليهود وعبادتهم للمال- فإن رجال المال المسلمين لن يكونوا أقل منهم, وقد علموا أن المال مال الله، وأنهم مستخلفون فيه، وأنهم مطالبون بالجهاد بأموالهم في سبيل الله، وأن ما أنفقوا من شيء في سبيل الله فسيوفى إليهم، ويخلفه الله عليهم. وهنا نقطة مهمة في ميدان البذل والعطاء المادي يجب أن ننبه عليها. فأنا أعلم أن بين أرباب المال واليسار من المسلمين كثيرين من أهل الدين والاستقامة الراغبين في الخير والراجين لمثوبة الله يجودون ويتصدقون بالكثير، ويبسطون أيديهم بالعطاء، لكنهم في حاجة إلى أن يعرفوا أين ينفقون. فإن من الأمور المهمة المطلوبة في ميدان العمل الإسلامي، والبذل الإسلامي: أن يدرك أصحاب المال أن المهم ليس إنفاق المال، إنما المهم أين تنفقه؟ ومن المهم جداً في هذا المجال ترتيب الأولويات، وتقديم الأهم على المهم والمهم على غير المهم.
فمن المؤسف حقا أن ترى الجمهور الأعظم من أثرياء المسلمين، وبخاصة أهل الخير منهم، يولون أكبر الاهتمام إلى بناء المساجد، وما يشبهها من المؤسسات الدينية المحضة. وهذا ما شكا  منه الكثيرون ممن يعملون في حقل الدعوة، وفي ميادين العمل الإسلامي. شكا منه الإخوة في منظمة الدعوة الإسلامية في إفريقيا.. وشكا منه الأخ الكبير الدكتور محمد ناصر وإخوانه في المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية في إندونيسيا.. وشكا منه الإخوة الذين يعملون في الحركة الإسلامية في مجالات الدعوة والتوعية والتربية والمواجهة مع الأفكار والحركات العلمانية والماركسية وغيرها. مع أن هناك - بإجماع الخبراء والمخلصين- بناء أهم من بناء المسجد، ألا وهو بناء الإنسان. بناء الرجال، الذين عليهم تقوم النهضات، وبهم تنتصر الرسالات، وبجهودهم وإخلاصهم تتحقق الآمال، وبهم تعمر المساجد،.وتنهض المؤسسات. إن إقامة مركز للدعوة إلى الإسلام، وتوعية المسلمين، ونشر الفكر الاسلامي الصحيح بين شبابهم، والعمل على تصحيح عقائدهم، وتقويم أخلاقهم, وغرس معاني الاعتزاز بالإسلام، والحب له، والغيرة عليه، في صدورهم، وإيجاد الوسائل المتنوعة لتحقيق هذه الغاية، من رحلات ومخيمات وحلقات, ومحاضرات، وغيرها كل ذلك من أوجب الأعمال التي تقرب إلى الله، و تخدم الإسلام، وإنفاق المال فيها من أول المطلوبات، ومن أعظم القربات.
إن إعداد دعوة ومربين قادرين على العطاء، فاهمين لدينهم، وفاهمين لدنياهم،و تفريغهم لأداء هذه المَهَمة، وإعانتهم عليها بكل سبيل، لهو مما يأثم المسلمون بالتفريط فيه، ويؤجرون عن الله، ويحمدون عند الناس بالمسارعة عند إليه، وبذل المال والوقت والجهل في تحقيقه وإنفاذه.

أضف تعليقك