لا بد للحركة الإسلامية أن تسعى سعياً حثيثا؛ لتمد أشعتها إلى كل شرائح المجتمع وطبقاته، وأن تمتد أفقيا عن طريق تغذية الصحوة الإسلامية العامة حتى لا يبقى ركن في الحياة الاجتماعية إلا وصل إليه صوت الحركة، ويلغّته رسالتها، وكان لها فيه جنود وأبناء، ووراءهم أضعافهم من الأنصار والمؤيدين والمساندين. و(إنما يتم ذلك عن طريق عمل دعوي وإعلامي, مخطط منظم يستفيد من وسائل العصر، وإمكانات العلم، وتكنولوجيا الإعلام الحديث، ويقتبس من أدوات الغرب والشرق كل ما يخدم دعوته، ويحقق هدفه، "والكلمة الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها".
ولا بد للحركة أن تستعين بفنيّين متخصصين في مخاطبة العامة والخاصة، والاستفادة من علوم النفس والاجتماع والسياسة والإعلام، وتجنيدها لخدمة أهداف الحركة ورسالة الإسلام. بل لا بد للحركة أن تخطط من اليوم لإعداد دعاة معاصرين، وإعلاميين مؤمنين بدعوة الإسلام وشمولها وعالميتها وتوازنها، قادرين على أن يبلغوها إلى الناس بلغة العصر، ومنطق العلم. وسنتحدث في الصحائف التالية عن أهم الشرائح الاجتماعية التي يحب أن تمتد إليها الصحوة، ومن ورائها الحركة، من المثقفين إلى العمال إلى التجار إلى غيرهم.
الحركة الإسلامية والنخبة المثقفة
أول الشرائح التي يجب أن تتغلغل فيها الحركة وتؤثر فيها تأثيراً بيناً، هي النخبةالمثقفة، بحيث تستقيم فكرتها عن الإسلام، عقيدته وشريعته وحضارته و تاريخه وعن الحركة الإسلامية وأهدافها وإنجازاتها.
سوء فهم كثير من المثقفين للإسلام:
فرغم انتشار الصحوة بين المثقفين من الشباب، فلا زالت مجموعات كبيرة تجهل الإسلام وتفهمه فهماً مبتورا، و مشوشاً، ومشوهاً؛ نتيجة للرواسب القديمة من عصور التخلف، أو المشوهات الجديدة من آثار الغزو الفكري. ما زال بعضهم- رغم ثقافته الجامعية- يؤمن بالخرافات ويستسلم للمشعوذين ويدخل عليه الشرك في عقيدته، والابتداع في عبادته، والاضطراب في سلوكه. وهو يحسب أنه متدين. ما زال بعض المثقفين يطوفون بأضرحة الأولياء، كأنها الكعبة، ويستغيثون بالمقبورين، ويعلّقون التمائم، ويؤمنون بتحضير الأرواح، ويحلفون بغير الله وينذرون لغير الله ويذبحون لغير الله.
وهؤلاء-وإن كانوا قلة نسبية بحكم طغيان الموجة المادية، والغزوة الفكرية الغربية - لا زال لهم وجود, بحكم تأثير الصوفية المنحرفة، والتي لا يزال لها قوة ونفوذ في أقطار المسلمين، وتسندهاً-علنا ومن وراء ستار- السلطات الرسمية، لأسباب لا تخفى على اللبيب؟.والواجب أن يعرف هؤلاء مقوّمات العقيدة السليمة، والعبادة المقبولة عند الله.
وما زال بعض المثقفين يجهل عناصر الخلود، وجوانب القوة والعظمة في الإسلام فلا يكاد يعرف شيئاً من خصائصه أو مقوماته. وهو يأخذ الإسلام من المستشرقين والمبشرين, أو يأخذه من واقع المسلمين. فهو يظن أن ما عليه الناس من حوله هو الإسلام، فيحمل تأخر الناس وفسادهم وجهلهم على الإسلام، والإسلام من هذا كله براء.
والواجب أن يعرف هؤلاء من أين يؤخذ الإسلام، وما مصادره التي تستقى منها تعاليمه، وأن الإسلام حجة على المسلمين, والمسلمون ليسوا حجة على الإسلام. وما زال بعض هؤلاء يظن أنه يمكن أن يكون مسلماً متديناً حقا، وهو يقبل الحكم بغير شريعة الإسلام، يرضى أن يعيش في ظل دولة توجيهاتها غير إسلامية، وأنظمتها غير إسلامية.
والواجب أن يعرف هؤلاء أن الإسلام عقيدة وشريعة، وأن الله لم ينزل كتابه ليقرأ على الأموات، بل ليحكم الأحياء (إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله). وأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو مدموغ بالكفر أو الظلم أو الفسوق أو بها جميعا. ما زال بعض المثقفين يتوهم أن الإسلام صورة من النصرانية، والنصرانية تقبل أن يقسم الإنسان وأن تشطر الحياة بين الله وقيصر، (أعط لقيصر ما لقيصر وما لله لله).
فهو يحصر الإسلام في العلاقة بين المرء وربه, وهي علاقة خاصة مكانها الضمير فإذا تجاوزته فإلى المسجد لا تعدوه. أما الحياة ونظمها، والثقافة وتياراتها، والتعليم ومناهجه، والاقتصاد وتطبيقاته، والقانون وعقوباته، فما للدين ولهذه الأمور؟ وأكثر من ذلك أن ترى أحدهم يدّعي الإسلام، وقد يفاخر بالانتماء إليه وقد يصلي أو يحج أو يعتمر. ومع هذا يدعو للفكر القومي العلماني، ويؤثر الرابطة القومية بصورة مطلقة على الرابطة الإسلامية، ويتخذ من الفكر الغربي موجهاً له، دون انتقاء ولا تمحيص فهو يأخذ برأي دارون في التطور، وبرأي فرويد في التحليل النفسي، وبرأي ماركس في التفسير المادي للتاريخ، وبرأي دوركهايم في تفسير نشأة الأديان، ولا يرى أن للإسلام موقفاً في شيء من ذلك. حتى قال أحدهم يوماً: أنا ماركسي مسلم؟ ولا أدري كيف يجتمعان؟ وما مصدر إلهامه وتفكيره إذن: القرآن أم (رأس المال) والبيان الشيوعي؟ ومن القدوة والحكم عند الاختلاف: محمد أم ماركس؟.
وهل يقبل من إنسان أن يقول: أنا بوذي مسلم. أو مسيحي مسلم؟ فكيف يقبل منه أن يقول: أنا ماركسي مسلم؟ الآن الماركسية ليست ديناً، بل تحارب الدين كله، وتعتبره أفيون الشعوب. والأصل أن هذا يجعلها أولى بالرفض. فإذا لم يقبل الإسلام الاشتراك مع دين آخر - ولو كتابياً- فكيف يقبل الاشتراك مع عقيدة تجحد كل الأديان؟ على أن العقيدة الماركسية-وإن جحدت كل الأديان-تحمل طبيعة الدين الذي يفرض التجرد له, ولا يقبل الشركة فيه. فالماركسية فلسفة شمولية كاسحة, لا تدع بطبيعتها مكانا للإسلام ولا لغيره إلا أن يكون- عند التساهل والضرورة- مكان الذيل لا الرأس, والتابع لا المتبوع. وما زال بعض المثقفين يتصور أن ضعف المسلمين- السياسي وانهزامهم العسكري وتخلفهم الحضاري، وانحطاطهم في الميدان العلمي والتكنولوجي- راجع إلى دينهم وإن انتصار الغرب ونهوضه وتقدمه راجع إلى تحرره من ربقة الدين، وقيامه على الفكر العلماني, الذي يفصل الدولة عن الدين. والواجب أن يعرّف هؤلاء بحقائق الدين الأصيلة، مستقاة من منابعها الصافية من كتاب الله وسنة رسوله، كما فهمها أفضل قرون هذه الأمة من الصحابة والتابعين. وسيجدون حينئذ أن حقائق الإسلام إذا أحسن فهمها، وروعي حسن العمل بها، لا تؤتي إلا طيب الثمرات.
فليس فيها إلا ما يحرر العقول، ويزكي الأنفس، ويشحذ العزائم، ويقوي الأبدان, ويبني الأسر على أمتن الدعائم، وينهض بالمجتمعات على أسس من العلم والإيمان ، والتكافل، ومكارم الأخلاق، ويقيم الحكومات على ركائز من العدل والشورى وتحكيم ما أنزل الله من الهدي والحق، ويهدي الإنسانية كلها إلى التي هي أقوم.
كما يجب أن يعرف هؤلاء أن الذي يدرس تاريخ الإسلام ودوراته وتقلباته، وما فيه من انتصارات وهزائم, وانتعاشات ونكسات، وقوة وضعف، سيجد بوضوح أن الانتصار والازدهار والقوة والانتعاش تكون حيث يقترب المسلمون من الإسلام وقيمه وأحكامه بفضل خليفة أو قائد أو عالم، أو حركة. كما في عهد الخلفاء الراشدين قبل إيقاد نيران الفتن عليهم، وعهد عمر بن عبد العزيز، وأبي جعفر المنصور، وهارون الرشيد وعهد نور الدين محمود الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهم.. أما الهزائم والنكسات وفترات الضعف والانحسار, فإنما تكون حيث يبتعد المسلمون عن حقيقة الإسلام، وعلى قدر بعدهم تكون مصيبتهم. ما زال بعض المثقفين يجهلون أشياء تعتبر بديهيّات الإسلام، حتى رأينا بعض من يكتبون منهم يتحدث عن صلب المسيح وكأنه حقيقة واقعة. وهو أمر مرفوض في الإسلام قطعيا.
أو يتحدث عن حواء وإنها التي أغرت آدم بالأكل من الشجرة المحرمة، فكانت سبباً في طرده من الجنة. وتبعاً لذلك كانت سبباً لشقائنا ومكابدتنا في هذه الدنيا وهذه الفكرة مستقاة من التوراة وأسفار العهد القديم, ولا أساس لها في الإسلام. فآدم هو الذي أكل, وهو الذي خالف. ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً) (سورة طه:115), ( وعصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) (سورة طه : 121, 122). فآدم هو المسئول الأول, وزوجه إنما أكلت تبعاً له. ما زال كثير من المثقفين ينظر إلى الثقافة بمنظار غربي, فالرقص عندهم في مقدمة مقومات الثقافة، والشعب الذي لا يرقص شعب غير مثقف. وإذا قلت لهم: نحن عندنا رقص بالسيف والعصا، وبغيرهما- عندنا (العرضة) و (التحطيب ) و(الدبكة ) وغيرها من ألوان الرقص الشعبي المعروف في كل بلد، يمارسه الناس في المناسبات السارة كالأعراس والأعياد ونحوها ـ سخروا منك، لأنك لم تفهم المقصود من الرقص الذي لا مقصود غيره، هو: أن تراقص المرأة الرجل الأجنبي عنها، ويراقص الرجل المرأة الأجنبية عنه، وتتلامس الأجسام، وتتحرك القلوب، على نغمات الموسيقى، وإياك أن تظن سوءا، هؤلاء ليسوا مثلي ومثلك بشرا لهم غرائز وشهوات، بل هم أناس فوق مستوى الشبهات والشهوات , بل هم ملائكة يمشون على الأرض!
أما فكرة (الحلال والحرام) وأن المسلم ليس حرا يفعل ما يشاء، بل هو يعمل في إطار حده الله له لا يجوز له اعتداء حدوده، (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) (سورة الطلاق: ا) فهذا كلام غريب لا يجد له صدى في أنفس أولئك المثقفين .
كيف تتعامل الصحوة الإسلامية مع المثقفين:
وعمل الصحوة مع المثقفين يأخذ طريقين: الطريق العلاجي، والطريق الوقائي. فالعلاجي يكون بتصحيح الأفهام الخاطئة عند المثقفين، وإقناعهم بالأدلة العلمية الموضوعية الهادئة، لا بالشتائم ولا المهاترات، ولا الأقوال الخطابية. ودلالتهم على المصادر الموثقة ليعرفوا منها ما يجب أن يعرفوه عن الإسلام: كتابه ورسوله، وعقيدته، وشريعته، وتاريخه، وحضارته.
وهذا إنما يفيد في الغالب الشباب فمن لم تتمكن فيه العصبية لمبدأ يعتنقه أو نشأ عليه، ومن غلب عليه طلب الحق للحق.
أما المتعصبون، والمنتفعون من التجارة بالتقدمية والتحررية واليمينية واليسارية وغيرها، فقلما يجدي معهم حوار، إلا من باب إقامة الحجة، وإبطال التعلة. والطريق الثاني : هو الطريق الوقائي. ونعني به وضع ثقافة صحيحة موثقة عن الإسلام، تجمع بين الدقة العلمية، والوضوح البياني، مهمتها إعطاء جرعات كافية في فهم الإسلام، وتصحيح المفاهيم التي شاع الخطأ في تصورها، والرد على الشبهات والمفتريات، دون إسهاب في سردها. والغرض من ذلك تحصين الشباب من سموم الأفكار الغازية. فهو بما حصل من ثقافة كأنما أصبح (مُطَعّما) ضد الأوبئة الفكرية الزاحفة جهرة، أو المتسللة خفية. وينبغي أن نبعد عن هذه الساحة ـ ساحة النخبة ـ الوعاظ الشعبيين: وعاظ الجماهير، الذين لا يفهمون لغة العصر، ولا منطق المثقفين ولا يتعاملون إلا مع القلوب المؤمنة يلهبون حماسها لا مع العقول المتجردة التي قلما تقول: نعم، بل تسأل دائما: لم؟ وفيم؟ وكيف؟!! ومثل الوعاظ الشعبيين الكتاب الشعبيون أيضا، فأولئك يستثيرون العواطف باللسان، وهؤلاء يستثيرونها بالقلم، والقلم أحد اللسانين، كما قال العرب، وإن كان اللسان أقدر على الإثارة والتهييج لما للصوت ونبراته من تأثير، فإذا أضيف إليه المشاهدة كان أقوى. فهؤلاء وأولئك من الوعاظ والكتاب لهم أثرهم ونفعهم، بقدر ما لدى كل منهم من علم موثق، ولكن في محيط النخبة المثقفة، يكون ضررهم أكبر من نفعهم.
منقول بتصرف من كتاب – أولويات الحركة الإسلامية للعلامة فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي
أضف تعليقك