ممدوح الولي
حذر الكثيرون الجنرال المصري، مع حديثه عن تحريك سعر الرغيف المدعم، من سيناريو انتفاضة الخبز التي حدثت عام 1977 في شكل مظاهرات عارمة عمت العديد من المحافظات، مما اضطر الرئيس السادات وقتها للاستعانة بقوات الجيش للتصدى لها، مع إعلان حظر التجول والقبض على المئات، ليسفر الصدام بين المواطنين والأمن عن سقوط 79 قتيلا وحوالي 800 جريح واعتقال 1250 شخصا.
وبدأت الأحداث يوم السادس عشر من يناير 1977 برفع سعر الأرز إلى 6 قروش للكيلوغرام، وسعر الدقيق الأبيض الفاخر - وليس البلدي الأسمر - إلى 12 قرشا للكيلوغرام، وزيادة سعر السكر الحر في المحلات بنحو قرشين إلى 26 قرشا للكيلوغرام، مع ثبات سعر السكر على البطاقات التموينية بنحو عشرة قروش للكيلوغرام، وزيادة سعر المعكرونة المنتجة محليا إلى 15 قرش للكيلو جرام، والمكرونة الإسباغتىي والشعرية إلى 17 قرشا للكيلو جرام، وبيع الذرة الصفراء المستوردة بسعر التكلفة من جانب الجهة الحكومية المستوردة لها، ورفع أسعار الخبز بأنواعه الثلاثة؛ البلدي أو الأسمر كما يسميه البعض، والأكثر شعبية لاحتوائه على الردة، والخبز الشامي الذي يستخدم دقيقا فاخرا لصناعته، والخبز الفينو أو كما يسميه المصريون الأفرنجي.
فقد زاد سعر الرغيف البلدي من خمسة مليمات إلى عشرة مليمات، وحرصت السلطات في نفس الوقت على استمرار إنتاج خبز بلدي بسعر خمسة مليمات ولكن مع خفض وزنه عما كان قبل القرارات؛ من حوالي 135 جراما إلى 85 جراما، كما طرحت نوعا جديدا من الخبز بوزن أكبر من الرغيف السائد حينذاك، يصل إلى 170 جراما، ومصنوع من دقيق فاخر بسعر 15 مليما.
تراجع بكل قرارات الزيادات السعرية
كما رفعت السلطات حينها سعر الرغيف الشامي ذي الحجم الكبير من عشرة مليمات إلى 15 مليما، والرغيف متوسط الحجم من خمسة مليمات إلى عشرة مليمات، والرغيف الصغير من 2.5 مليم إلى أربعة مليمات.
كما زادت سعر الخبز الأفرنجي الفينو كبير الحجم من عشرة إلى 15 مليما، والأفرنجي صغير الحجم من خمسة مليمات إلى عشرة مليمات.
ونظرا لمكانة الخبز في التغذية اليومية لعموم المصريين فقد تحركت المظاهرات العمالية في أكثر من مدينة، كما تحركت التظاهرات الطلابية في أكثر من جامعة، ومع نزول التظاهرات للشوارع انضم إليها أفراد من الشعب من المتضررين من القرارات، مما دفع الرئيس السادات للتراجع عن جميع قرارات زيادة أسعار تلك السلع بعد يومين فقط من صدورها. وهو نفس التراجع التي تم مع زيادة أسعار البنزين حين زاد سعر اللتر من البنزين العادي من 62 مليما إلى 80 مليما، والبنزين الممتاز من 80 مليما إلى 105 مليمات، لتعود الأسعار إلى سابق عهدها بعد ثلاثة أيام فقط من إصدارها.
وتكرر التراجع عن ثلاثة قرارات جمهورية أخرى؛ يتعلق أحدها بتعديل الضريبة الجمركية على بعض سلع الواردات، وآخر بفرض رسم إنتاج واستهلاك على بعض السلع، وثالت بزيادة رسم الإنتاج والاستهلاك على المشروبات الكحولية والبيرة، ليتم إلغاء القرارات الثلاثة قبل مرور أقل من شهرين على إصدارها شاملة ما يخص المشروبات الكحولية والبيرة. ولم يكتف السادات بذلك، بل أصدر خلال شهر يناير قرارا بإعفاء بعض السلع من الجمارك، وقرارا بإعفاء بعض مواد البناء من الجمارك.
وسعى الرئيس السادات إلى اكتساب ثقة الجماهير، فقام بمنح علاوة إضافية للعاملين في الدولة اعتبارا من مطلع عام 1977، كما قام بصرف إعانة إضافية بنسبة عشرة في المائة لأصحاب المعاشات، كذلك قام بالإعلان عن علاوة للعاملين بالقطاع الخاص بنسبة 7.5 في المائة، بالإضافة إلى علاوة إستثنائيه لهم بنسبة 5 في المائة، ليصل الإجمالى إلى 12.5 في المائة، كذلك قام بتحسين مقررات معاش الضمان الاجتماعي المخصص للشريحة الفقيرة من المجتمع.
إلغاء جهاز تخطيط الأسعار!
وقام السادات برد الجميل للجيش الذي لولاه ما تم إخماد الاحتجاجات، فقام باعتبار الخدمة في الجيش في تلك الفترة خدمة حرب بالنسبة لجميع أفراد الجيش، ورفع قيمة مكافأتي الميدان والطوارئ لأفراد القوات المسلحة، ومنح علاوة للضباط الحاصلين على الماجستير.
وزاد اهتمام الرئيس السادات بالقطاع الإنتاجي والتجاري والغذائي، فقام بإنشاء المجلس الأعلى لقطاع الزارعة والري، ليضم كافة الشركات الزراعية وشركات استصلاح الأراضي والصيد وإنتاج اللحوم والدواجن، وإنشاء مجلس أعلى للتجارة الداخلية يضم كافة شركات المطاحن والصوامع والمضارب وتجارة السلع الاستهلاكية والغذائية، والمجلس الأعلى للاستثمار لتحديد أولويات الاستثمار.
وخصص منافذ لبيع الساندويتشات بسعر يقل عن محلات القطاع الخاص، وحدد حصة ملابس بأسعار مدعمة لطلاب الجامعات. وعلى الجانب الآخر قام بإلغاء جهاز تخطيط الأسعار، بعد أن تبين له أن اتخاذ القرارات الخاصة بالسلع الغذائية يحتاج إلى تمهل وتدرج، حيث كان من الأخطاء الرئيسية إصدار العديد من القرارات في توقيت واحد مما سبب صدمة للجمهور وللسوق، نتج عنها ما حدث من تظاهرات وتدمير لمنشآت وسقوط ضحايا، واهتزاز للاستقرار الأمني والسياسي ولصورة الرئيس وسط الجماهير.
وكي يعوض السادات نفقات تلك القرارات للتيسير على المواطنين، فقد توسع بالاقتراض الخارجي، حتى أنه تمت الموافقة على 19 قرضا خلال عام 1977 من جهات دولية وعربية، منها البنك الدولي، وبنك التنمية الأفريقي، وبنك تشيز مانهاتن، والولايات المتحدة وإيطاليا، وهيئة الخليج للتنمية، والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية، والصندوق السعودي، ومنظمة الدول المصدرة للبترول.
مبارك استفاد من دروس 1977
ويظل السؤال: هل يمكن أن تتكرر تلك الظروف خاصة مع تنبه الحكومات إلى التدرح في إصدار القرارات التي تمس الجمهور؟ تشير التجربة إلى تكرار الاستفادة مما فعله الرئيس السادات لاسترضاء الجماهير عام 1977، في عهد مبارك.
ففي عام 2007 كانت وزارة التضامن الاجتماعي، المسئولة عن ملف السلع التموينية، تقوم بإعداد قاعدة بيانات للفقراء كي تقصر عليهم صرف المقررات التموينية لخفض تكلفة دعم السلع التموينية، بحيث يبدأ تنفيذ الخطة أوائل عام 2008.
لكن أزمة نقص الخبز التي زادت حدتها ما بين عامي 2006 و2007 وأسفرت خلال عام 2008 عن مظاهرات في عدة محافظات وسقوط قتلى في طوابير الخبز خلال التدافع أمام منافذ بيعه، وما أعقبها من دعوة للإضراب العام في أبريل وحدوث مظاهرات وصدامات بين مواطني مدينة المحلة والأمن لمدة يومين؛ تم خلالها إسقاط صورة مبارك بأحد الميادين والدوس عليها بالأقدام.. أدى ذلك إلى تراجع الرئيس مبارك عما كان ينويه من إجراءات لخفض عدد البطاقات التموينية، بل إنه قام بخطوة غير متوقعة حين قام بإلغاء البطاقات التموينية التي كانت تحصل على دعم جزئي وتأخذ لونا أحمر، للتمييز بينها وبين البطاقات ذات اللون الأخضر المخصصة للشرائح الشعبية، والتي تحصل على دعم كلي، حيث قام بإلغاء البطاقات التموينية الحمراء بعد 25 عاما من نفاذها لتصبح كل البطاقات خضراء!
واستفاد النظام الحالي من تلك التجربة التاريخية أيضا في مارس 2017، حين قامت مظاهرات في سبع محافظات، نتيجة امتناع المخابز عن تسليم الخبز المدعم لحاملى البطاقات التموينية الورقية بعد تحويلها إلى كروت ذكية، وتقليص حصة مفتش التموين الذي يحمل كارتا يسمى الكارت الذهبي لتسليم الخبز لمن ليس لديهم كروت ذكية، الأمر الذي دفع وزارة التموين إلى زيادة حصة الكارت الذهبي من الخبز وإتاحة مهلة زمنية لاستخراج البطاقات الذكية لمن لديهم بطاقات ورقية.
بذخ بالكماليات وتقتير مع الفقراء
ولكن هل يمكن أن تتكرر أحداث انتفاضة الخبز عام 1977 في حالة إقدام النظام المصري على رفع سعر الخبز المدعم؟ البعض يرى أن الظروف اختلفت، حيث كانت حينذاك حركة عمالية وطلابية نشطة، حتى أن عمال شركات الإنتاج الحربي شاركوا في التظاهرات، بينما المشهد الآن مختلف في ظل إجهاض كافة الحركات الشعبية وتجريم التظاهر ووجود عشرت الآلاف بالسجون، وإعلام الصوت الواحد والقبضة الأمنية الشديدة.
لكن هناك عوامل أخرى يمكن أن تساهم في تكرار أحداث 1977؛ أبرزها زيادة عدد الفقراء والحد الأدنى الرسمي لعددهم 30 مليونا، وهؤلاء ليس لديهم ما يخافون عليه، ويعد رغيف الخبز السند الأساسي لسد الجوع لديهم. كذلك ما زالت هناك قوى معارضة متناثرة تتحين الفرصة لإثبات وجودها، خاصة وأن قضية الخبز ستجد تجاوبا شعبيا ممن ينأون بأنفسهم عن المشاركة في القضايا السياسية.
كما يساهم النظام الحاكم في تأجيج الغضب حين يستمر في الإغداق على مشروعات ليست ذات أولوية، مثل بناء عاصمة إدارية ومقر جديد لرئاسة الجمهورية ولمجلس النواب ومجلس الشيوخ ومقر صيفي للوزارة بالعلمين وقصور رئاسية، بينما يقوم بخفض دعم الفقراء. كما ظهر دور مواقع التواصل الاجتماعي في صنع رأي عام معارض للقرار، تشارك فيه ربات البيوت وشرائح شعبية ذات لغة خطاب جماهيرى مفهوم ومؤثر، مما يمكن معه توجيه الجهود الرافضة لرفع سعر الخبز في مسارات حيوية، والتي ظهر بعضها خلال الرد على النظام الحاكم بأنه إذا كان هناك دعم سلعي فهو قادم من الضرائب التي يدفعونها.
كما أن الدعم يخفض الإنفاق الصحي والأمني ويزيد القدرة على الإنتاج، ويحقق الاستقرار الاجتماعي الذي يجلب الاستثمار والسياحة. كما أن المواطنين أيضا يدعمون الحكومة حين يدفعون قيمة رسوم باهظة عند استخراج أية أوراق حكومية لا تتناسب قيمتها بالمرة مع تكلفة الخدمة.
أضف تعليقك