وائل قنديل
ليس السؤال هذه المرة: من يتذكّر محرقة رابعة العدوية 14 أغسطس 2013؟ صار السؤال هو: من يجرؤ على التذكّر، ومن يملك جسارة إحياء الذكرى؟
قبل عام فقط، كانت ذكرى مذبحة القرن في ميدان رابعة العدوية في القاهرة موضوعًا أثيرًا لدى نظم سياسية كثيرة ساعية إلى التقاط صورة بأكبر من الحجم الطبيعي لها، وهي ترعى حقوق الإنسان وتدافع عن الإنسانية بمعناها الأنصع والأوسع. وبالتالي، كانت تسهل عقد المؤتمرات والمنتديات، حتى في ذروة وباء كورونا، كانت تفعلها عن طريق الفيديو كونفرانس، وتلقي الكلمات والخطب الفخيمة عن الشهداء والديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية.
كانت الفضائيات والصحف تتأهب هي الأخرى، مبكّرةً، لذكرى هذا اليوم العصيب، فتجهز الملفات والشهادات والمقابلات ووثائق الجريمة، وأدلة إدانة المجرمين، وتتسابق في صياغة التواريخ وصناعتها، مائة يوم على المذبحة .. عام على المذبحة .. ألف يوم على الجريمة .. إلى آخر هذه اللافتات المثيرة للشجن.
أيضًا، كان شعار الأصابع الأربعة الصفر مستقرّا على مكاتب الرؤساء والمسؤولين، وأعلى شاشات التلفزة، فيما الحديث يشتعل أن الجناة لن يفلتوا، وأن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.
هذا العام، تأتي ذكرى المحرقة التي نفذها الانقلاب العسكري ضد معارضيه ورافضيه في مصر، بينما حرائق الطبيعة تجتاح أكثر من بلد عربي شقيق وجار، بدأت من شمال لبنان، المشتعل أصلًا بأزمات الوقود والكهرباء والماء، مرورًا بتركيا واليونان، وتونس، وصولًا إلى الجزائر التي تواجه جحيمًا حقيقيًا انخلعت له قلوب الناس في الشرق والغرب.
ربما يشكّل دخان الغابات والأشجار المحترقة في الإقليم عاملًا إضافيًا لمحاصرة ذكرى محرقة رابعة العدوية التي تحل غدًا، 14 أغسطس، والمجتمع العربي والإنساني بأسره منشغلٌ بحرائق أخرى، من حريق انتقال ليونيل ميسي من برشلونة إلى باريس، والذي لا تزال ألسنته مرتفعة، إلى الحد الذي يغطي على اقتراب لبنان من الدخول في كارثة غير مسبوقة في تاريخ الشعوب، بإعلان عديد المستشفيات عن إغلاق أبوابها، بعد عجزها عن توفير المازوت اللازم لتوليد الكهرباء وتشغيل الأجهزة وتسيير الناقلات.
لبنان يعيش منذ أكثر من شهر في ظلام دامس، وانقطاع متواصل للمياه، وهبوط حاد في قيمة العملة الوطنية، حتى اقترب الدولار الواحد من 25 ألف ليرة، قافزًا بسعر ربطة الخبز إلى عشرة آلاف ليرة.
وإذا انتقلت إلى غرب الخريطة العربية، تجد تونس مشتعلة سياسيًا بانقلاب قيس سعيّد الذي عطل الحياة السياسية وشل أركان البلد، وفتح الباب على مصراعيه لدورة إقصاء وإبعاد وشيطنة للتيار السياسي في البلاد، امتداد الأيادي السوداء التي عبثت بالحالة المصرية، حتى وصلت بها إلى إحراق الجماهير في ميدان عام.
من المؤكد أن حرائق الطبيعة التي التهمت الغابات صنعت كوارث وفواجع إنسانية وبيئية مؤلمة ومفزعة، لكنها ليست بالفظاعة التي تمّت بها عملية حرق جماهير المعتصمين أحياء في ميداني رابعة العدوية ونهضة مصر قبل ثماني سنوات. وإذا كان الفاعل في حرائق الغابات مجهولًا أو غامضًا، فإنه في محرقة البشر في "رابعة العدوية" معلوم للكافة، وجريمته مصوّرة وموثقة بالكامل. ومع ذلك لم يعد أحد يدينه أو يندّد بجريمته، أو يطلب العدالة للضحايا.
رأينا العكس من ذلك، فالذين تسابقوا لالتقاط الصور وهم يستنكرون الجريمة، صاروا في طليعة داعمي مرتكبي الجريمة، وخاطبي ودّهم، بل أصبحوا لا يطيقون سماع الأصوات التي تُذَكِّر بها، أو تتحدّث عنها.
الشاهد أن رابعة كانت الحفل الافتتاحي لحرق مفهوم المواطن العربي، ذلك المفهوم الجديد الذي عبّر عن نفسه في ربيع 2011، وأدخل هذا المواطن في معادلات السياسة والاقتصاد والاجتماع، طرفًا أصيلًا وعنصرًا محدّدًا لشكل النظام السياسي ومنطلقاته وتوجهاته، فكان لا بد لفيلق الاستبداد العربي من إعادة المواطن إلى حدود شتاء 2011، كائنًا يعمل ويأكل ويشرب ويذهب إلى صندوق الانتخاب، من دون أن يكون لذهابه أي تأثير.
بعد حفل الافتتاح في رابعة العدوية، توحّش الأسد في سورية، فصار مطمئنًا إلى أن ارتكاب مذابح من هذا النوع وبهذا الحجم، بحق ثورة الشعب السوري، لن يسبّب له أي إشكال حقيقي، والأمر ذاته جرى في ليبيا باستنساخ الجنرال خليفة حفتر، مفوضًا بقتل ثورة الشعب الليبي، وكذلك الحال في اليمن، على يد الحوثي وهادي، معًا.. وأخيرًا تونس، مع قيس سعيّد، أحدث تجليات اختراع فرانكشتاين في الربيع العربي.
بعد ثماني سنوات من المجزرة، تتلبد السماوات العربية بسواد دخان حرائق الطبيعة، وتكتسي الضمائر بطبقةٍ من الصدأ، على أن ذلك كله لن ينجح في إسقاط الجريمة من الذاكرة بالتقادم، وأمامك عمر البشير الذي تدور عملية تسليمه إلى الجنائية الدولية، على يد شركائه في ارتكاب جريمة ضد الإنسانية في دارفور قبل أكثر من عشرين عامًا، ويا لها من مفارقة!
أضف تعليقك