بقلم.. وائل قنديل
قبل الذهاب إلى مجلس الأمن بقضية سد النهضة، احتفل عبد الفتاح السيسي بمئوية الحزب الشيوعي الصيني، في كلمة متلفزة طويلة، أطول من كلماته في ذكرى الثلاثين من يونيو، والتي يعتبرها ثورة عظيمة مكّنته من حكم مصر، فيما يعدّها الثوار الحقيقيون خديعة انقلابية معسكرة تكيل العداء لثورة مصر الحقيقية في الخامس والعشرين من يناير/ كانون ثاني 2011.
كان السيسي، وهو يحتفل ويهنئ بالعيد المائة لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، مندمجًا في الدور على نحوٍ تشعر معه وكأنه قضى سنوات طفولته وصباه وسط براعم التجربة الشيوعية الصينية، حتى تخيلت أنه سيقول للصينيين من قيادات الحزب وأعضائه إنه شيوعي أكثر منهم.
يقول السيسي لسكرتير عام الحزب الشيوعي الصيني، رئيس جمهورية الصين الشعبية، شي جين بينغ: "إنه لمن دواعي فخري واعتزازي أن أتوجه لكم، ومن خلالكم، إلى الشعب الصيني الصديق بكل التهاني بمناسبة مرور 100 عام على تأسيس الحزب الشيوعي الصيني ذلك الصرح السياسي العظيم الذي قاد الصين بنجاح".
لم تقرر السلطات المصرية إضاءة برج القاهرة بألوان العلم الصيني، ولم يحتفل اليسار المصري بمولد سيدي ماوتسي تونغ، كما كان الوضع مع "الأحمر الروسي" قبل ست سنوات، عندما كان السيسي يلعب الدور ذاته مع الروس، في زيارته الأولى إلى موسكو، بصفة رئيس مصر.
في ذلك الوقت، ارتدى السيسي المعطف ذا النجمة الحمراء، متباهيًا به أمام شعبه، مروّجا أوهام أنه، وقيصر روسيا، حليفان وصديقان، لا يفترقان أبدا. وكما سجلت وقتها، اصطبغت مصر باللون الأحمر، ليكون أكتوبر/ تشرين أول المصري، صورة أكثر لمعانا من أكتوبر الأحمر، كما تحدّث عنه أرشيف الثورة البلشفية الشيوعية، بقيادة لينين وستالين وتروتسكي في العام 1917، حيث تغلب بلاشفة روسيا على المناشفة فيها.
وقتها بدت كل الصحف المصرية وكأنها "برافدا" الصحيفة السوفييتية الأشهر، التي تولّى جوزيف ستالين رئاسة تحريرها في وقت ما قبل أن يقفز إلى قمة السلطة، وكل نجوم إعلام القفا اكتشفوا فجأة أنهم أحفاد ماركس ولينين وأبناؤهما، يتحدّثون عن قيصر روسيا الحالي، وكأنه المسيح المخلص ورسول العناية الإلهية لإنقاذ مصر وسورية والعراق واليمن، ودحر امبراطورية الشر الأميركية، التي كانوا حتى وقت قريب يتعبّدون في محرابها.
في الحالتين، الروسية والصينية، كان الجنرال على وشك الهتاف "شيوعي أنا"، ثم حين جاء دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، ودعا السيسي لزيارته، تغيّر الحال، وبدا الجنرال متماهيًا مع واشنطن ورئيسها إلى الحد الذي لم يجد معه غضاضة في التصرّف وكأنه أحد موظفي الإدارة الأميركية الأوفياء، معلنًا أنه سيكون مع ترامب وتحت أمره وقتما يشاء.
ثم بعد حالة عداء استباقية غير مفهومة مع فوز بايدن على ترامب في الانتخابات، ومع أول نظرةٍ من ساكن البيت الأبيض الجديد، قرّر السيسي أن يقدّم فروض الولاء للسيد بايدن، ثم يضع ملف سد النهضة تحت تصرّفه، يقضي فيه كيفما يرى، بحسب المقالة الشهيرة لسفير السيسي في أميركا، المنشورة في صحيفة واشنطن بوست.
ما بين الارتماء في أحضان الشرق الشيوعي، روسيا والصين، ثم الارتداد إلى الحضن الأميركي، بعثر السيسي ولاءاته في أوروبا، أيضًا، مقدّمًا نفسه باعتباره قائد حرس سواحل جنوب المتوسط، الذي يتفانى في حماية الأوروبيين من المهاجرين، الأوغاد، الذين يلوثون نقاء أوروبا بأفكارهم الإرهابية.
في المحصلة، ذهب السيسي إلى مجلس الأمن حاملًا ملف سد النهضة، وحاملًا أيضًا حزمة من التناقضات في إدارة علاقاته الدولية، جعلته يبدّل ولاءاته وانحيازاته على نحو يبتعد عن البراغماتية السياسية، ويسقط في قاع الانتهازية والكيدية الدبلوماسية التي تدفعه إلى تبديل هذه الولاءات بخفّة، جعلته يعود من مجلس الأمن بخفي حنين، أو بالأحرى حافيًا.
وبدلًا من مراجعة الذات والنظر في المرآة، يأتي الحل الأسهل، كالعادة، في تفسير ما جرى بأن العالم كله يتآمر على السيسي، والبشرية كلها تحسد مصر على حاكمها العبقري وتحقد عليه.
هذه الحالة من الإنكار، أو الانفصام التام، تحيط نفسها بغشاء من الابتزاز يجعلها ترى في كل انتقاد للإدارة المصرية لملف سد النهضة، قبل مجلس الأمن وبعده، شماتة في الوطن وخيانة لها، وتآمرًا عليه .. تفعل ذلك تهرّبًا من مواجهة واقع مأساوي يقول إن المؤامرة الحقيقية في الداخل، وليست في الخارج، وهو الأمر الذي يجعل العالم لا يأخذ هذا النظام على محمل الجد، ولا يعتد بما يصدر عنه باستمرار من هلوسة استخدام القوة.
الحقيقة المفزعة التي يتعامى عنها جميع المسبحين بحمد الجنرال أن ما بين السيسي وأبي أحمد من خلاف لا يرقى إلى مستوى الخصومة بين السيسي وابن علاء عبد الفتاح، أو ابن أسامة محمد مرسي، أو عائلات الصحافي المعتقل هشام فؤاد، وزميله حسام مؤنس، أو بينه وبين أنس البلتاجي، أو أطفال مصطفى النجار، أو أطفال وعائلات غيرهم من آلاف المعتقلين والمسجونين والمخفيين قسرًا، ممن يكافح السيسي من أجل حرمانهم من آبائهم وحرمان آبائهم منهم.
سيحسب الآخرون لمصر حسابًا عندما تكون خصومة السلطة فيها مع شعبها أقل من خصومتها من أعدائها الخارجيين، وعندما يدرك المسؤول فيها، وزيرًا كان أم ضابطًا، أنه ليس الوطن، وليس مالكه الوحيد، وحين يعرف قطيع المصفقين للفشل الملتحف بالاستبداد والطغيان أنهم ليسوا معيار الوطنية، وأنهم ليسوا مصر، بل هم، مع الأسف، ليسوا سوى ملامح القبح التي تسللت إلى وجه مصر.
سيحترم الخارج مصر حين يصدّق أن وزيرة الهجرة فيها لا تقوم بأدوار المخبرين والعسس على طلابها وأكاديمييها الدارسين في الخارج، والذين يقدّمون صورة محترمة لوطنهم في بلادٍ تخلصت من همجية الخلط بين المعارضة والخيانة.
أضف تعليقك