بقلم.. وائل قنديل
في مثل هذا اليوم من العام الماضي، كانت المنصّات مشتعلة بكلمات الرثاء، ومطالب القصاص، في اسطنبول، إن لم يكن بالحضور الفيزيقي، فبالتزاحم على المنصّات الالكترونية. كانت المناسبة الذكرى الأولى لاستشهاد الرئيس محمد مرسي، محرومًا من العلاج حتى الموت، واقفًا في قاعة المحكمة أمام منصّة أخرى غابت عنها الرحمة والعدالة.
كان الكلام عن تدشين مؤسسةٍ تحمل اسم الرئيس الشهيد للدفاع عن الديمقراطية، وكان من الرأي أن تنطلق مستقلة، وبعيدة عن الارتباط بواحدةٍ أو أكثر من العواصم التي كان يعدّها قتلة مرسي معادية، أو من مدن أهل الشر، وبالأخص اسطنبول والدوحة، غير أن القائمين على المؤسّسة قرروا الاستجابة للرغبة التركية في نيل هذا الشرف: استضافة مؤسّسة محمد مرسي للدفاع عن الديمقراطية وتدشينها، حيث احتشدت أسماء عديدة، من كل حدبٍ وصوت، مدجّجة بالخطب والكلمات الحماسية، فيما كانت القنوات التلفزيونية، وفي مقدمتها "الجزيرة مباشر"، تنقل الحدث الكبير لحظة بلحظة. كان ذلك في 17 يونيو/ حزيران 2020، وقبل ذلك بأيام كان الدعوات والإشعارات والتعليقات والتحليلات تتساقط كالمطر عبر القنوات والمواقع الإلكترونية.
هذا العام، وفي هذا اليوم، حيث تحل الذكرى الثانية غدًا، غاب اسم الرئيس الشهيد، واختفى اسم مؤسّسته من العناوين، ولم نسمع أو نقرأ عن دعوات، أو حتى دعوة، إلى إحياء الذكرى... لا أحد يذكر الشهيد في المدن التي سكنت القلوب، لأنها يومًا لم تصمت على جريمة تصفيته، ولم تحتفل بالتخلص منه، مثلما فعل أشرار وأوغاد حقيقيون.. لا أحد يتذكّر الديمقراطية والدفاع عنها.
لقد منحوا حرية الاحتفال لعبد الفتاح السيسي، لكي يحيي ذكرى مقتل الشهيد مرسي على طريقته الخاصة، بينما وزير خارجيته في لحظة عناقٍ تاريخيةٍ مع ميكروفون "الجزيرة"، عدوه السابق، في عقر دار الميكروفون في العاصمة القطرية، حيث حل ضيفًا، بحثًا عن مساعدات الأشقاء ضد الحرمان من المياه.
لم يشأ الضيف أن يسافر ويده خاوية من هديةٍ معتبرة للأشقاء في هذه اللحظة التاريخية: قرار بقطع رقاب 12 مصريا، جلهم من رجال الشهيد مرسي، منهم الوزير ومنهم السياسي والداعية وأستاذ الجامعة والطبيب الشاب، تم إعلانه، وهو في حضن "الجزيرة" وميكروفونها، يصول ويجول في ترويج عظمة النظام الذي يمثله، وعدالة قضائه ونزاهته، وحرص أجهزته على حرية المواطنين وكرامتهم، وحرمة دمائهم وممتلكاتهم وأعراضهم.
خبر الحكم النهائي الباتّ في قضية القرن، أو قضية مذبحة القرن، قتل المعتصمين في ميدان رابعة العدوية، لم يحضر عاجلًا، لا بالأحمر ولا بالأزرق، على شاشة "الجزيرة"، وقت إعلانه ونشره في جميع المواقع الصحافية المصرية والأجنبية، وعبر جل القنوات التلفزيونية في العالم.
حضر الخبر بعد وقت طويل، الاحتفال بسامح شكري، بمجموعةٍ من عواجل الأخبار والتصريحات. وفي المساء، حل خبرًا في ذيل النشرات، استغرق تحليله والتعليق عليه دقائق معدودات.
في أغسطس/ آب، 2018 صدر الحكم الأول في قضية قتل أكثر من ألف مواطن مصري في اعتصامي ميداني رابعة العدوية ونهضة مصر، وكانت "الجزيرة" قد وضعت الخبر بالأحمر الدامي، وفتحت هواءها لاستقبال أصوات المعلقين والمحللين، إذ كان الخبر زلزالًا حقيقيًا، بالنظر إلى أن الحكم حطّم كل الأرقام القياسية في تاريخ أحكام الإعدام، ناهيك عن أن الذين تقرّر إعدامهم هم الضحايا، فيما صدر الحكم لمصلحة الجناة.
وكما سجّلت في ذلك الوقت "كان الأمر أشبه بعمليات تصفية جسدية تقوم بها قوات أمنية تمارس القتل خارج القانون، ومن دون أن يرتدي مصدّرو الأحكام الأقنعة وسترات الاقتحام العنيف، دوى الرصاص في منطوق الحكم وأريقت الدماء، فوق منصّة العدالة".
كان السيسي قد استبق الذكرى الخامسة لمذبحة القرن بمحاولة إشعال النار في المعاني والمبادئ التي تأسّس عليها اعتصام "رابعة"، وهي حزمة القيم الإنسانية والسياسية المحترمة التي تبقى تطارده في حياته ومماته، فيصوّر له قصوره العقلي أنه قادرٌ على اغتيالها، بعد أن اغتال حامليها ومعتنقيها... كانت لحظة الحكم بالإعدام على المعنى، قبل الأشخاص الذين يجسّدون معنى أن ترفض انقلابًا عسكريًا وتمارس حقك في التعبير عن رفضه.
وأزعم أن قرار محكمة النقض المصرية، الصادر أول من أمس، لمناسبة نزول وزير خارجية السيسي ضيفًا على قطر، إمعانٌ في قتل ذلك المعنى، وإمعانٌ أكثر في تحدّي وإهانة كل من احترموا هذا المعنى واعتبروه حقًا إنسانيًا وأخلاقيًا وسياسيًا.
يعرف عبد الفتاح السيسي كيف يقتنص اللحظات المناسبة لتسويق مذابحه، في الخارج والداخل، فالخارج، المحيط الإقليمي والعربي، مشغولٌ في البحث عن مصالحه السياسية المباشرة، ومستغرقٌ في محاولات انتشال الشقيقة الكبرى من ورطة سد النهضة، بعيدًا عن تلك الاعتبارات الرومانسية والأخلاقية التافهة.
والداخل، هو الآخر، غارقٌ، نخبويًا، في شعارات الكفاح الوطني، من أجل المياه، فلا مجال إذن للكلام عن الدماء البريئة، ولم يفق بعد، شعبويًا، من خدر حقنة المسلسل الذي أحرق الحقائق على نحوٍ أكثر بشاعةً من حرق المعتصمين في الميدان، فيما النظام يمتلك من المهارات الشيطانية ما يتيح له التصرّف بمنتهى السهولة، وفقًا للمعادلة الاعتيادية: زخّة إعدامات للإخوان المسلمين، ثم رشّة إخلاءات سبيل لتياراتٍ أخرى، فيخرج متعهدو الزغاريد من المحامين والسياسيين المحترفين يصيحون بميوعة معهودة: مبروووووووك الحرية التي تمشي الهوينى على الأسفلت.
أضف تعليقك