بقلم.. وائل قنديل
الحكاية ليست بعيدة، بل إنها لا تزال حدثًا متطورًا ومتفاعلًا، لم يكتمل بعد، ولم يهجع في الأرشيف، فالشعاع الأول انطلق من حي الشيخ جرّاح في القدس المحتلة، فاستيقظ النائمون وانتبه الغافلون وانفتحت الأبواب واسعةً للمقاومين الأصلاء ومحترفي النضال الأدعياء، وأيضًا للسماسرة والتجار، فصار الأمر معركةً اتسعت لكل الأطراف، انتهت بانتصار تاريخي لمشروع المقاومة.
إذن، أصل الحكاية، وجوهرها كان القدس والشيخ جرّاح، حيث انتفض المقدسيون وصمدوا واعتصموا وقاوموا وثابروا وتحولوا إلى دروع بشرية تكافح ضد الاقتلاع، وتنافح عن المسجد الأقصى المبارك، وتتصدّى لمسيرة الزحف الصهيوني المعلن عنها، لمناسبة يوم احتلال فلسطين.
كانت الأمة كلها تسهر مع بسالة المقدسيين العزّل وجسارة المقاومين بالصواريخ من غزة، في شهر رمضان استثنائي صفدت فيه شياطين التطبيع، وابتلع الغضب المقدّس تلك الأصوات التي راحت تسخر من المقاومة وتشكك في جدوى أسلحتها.
في الثامن من مايو/ أيار الفائت، كانت ذروة ملحمة الصمود في حي الشيخ جرّاح، إذ أخذت الأحداث تنمو وتتخذ شكل الزحف المقدس لفلسطينيي 48 وفلسطينيي الضفة صوب المسجد الأقصى، ليصل العدد إلى نحو مائة ألف من الصامدين في ليلة قدر قدسية، يعلنون التحدّي ويقسمون يمين الأقصى، فيما كل بيت عربي في بلاد العرب يقسم معهم بقلبه ويهتف معهم من قلبه: فلسطين عربية والكيان الصهيوني عدو محتل وإلى زوال.
هنا، أطلت المقاومة بوجهها البطولي، ووجّهت إنذارًا صارمًا إلى العدو بقصف تل أبيب إن لم يرتدع. وفي تلك اللحظة، ظهر المرجفون والمتفلسفون يقدحون في دخول فصائل المقاومة على الخط، ويعلنون، بيقين الجاهل الواثق، أن صواريخ غزّة لو دخلت المعركة فإن القضية سوف تخسر، كما سيتضرّر المقدسيون وعرب الـ 48 وسيتخذها الاحتلال ذريعة لممارسة الجنون والإجرام بلا سقف.
غير أنه ثبت أن كل رشقة صواريخ منطلقة من غزّة كانت تعطي المعركة زخمًا، وتعيد طرح القضية على وجهها الصحيح: شعب أبي صاحب حق أصيل في الأرض يقاوم ويحارب ويناضل دفاعًا عن وجوده وترابه ومقدّساته، ضد أحط أنواع الاحتلال وأردأ أشكال الاستعمار.
هنا، استدار المرجفون، برشاقةٍ عجيبة، يكتبون الشعر في مقاومة غزّة، ويتغزّلون في روعة الصواريخ وجدواها، بعضهم بصدق، وبعضهم ركوبًا للأمواج، غير أنه في المجمل كانت لحظة بديعة انتفت معها النبرة الفصائلية المناطقية، وصارت القضية كل فلسطين، وبالضرورة أحد أجزائها غزة.
قلت وقتها "أعادت القدس ضبط الوجدان العربي، وأعادت تعريف كل الأشياء، وأضاء الأقصى القلوب والعقول من جديد، فعاد العدو عدوًا والشقيق شقيقًا"، حيث كنا بالفعل بصدد مناخ شعبي وسياسي ونضالي مختلف تمامًا، وهو ما دفع تجار التهدئة وباعة التسوية وموزّعي المشروع الأميركي للحضور على الفور، فوجدها السيسي فرصة عمره لتقديم القرابين وإظهار الولاء والطاعة لحاكم البيت الأبيض الجديد الذي أظهر له ازدراءً مصطنعًا منذ اليوم الأول، فأسرع إلى استرضاء حركة حماس ومغازلة غزة، وانشقت الأرض الجدباء عن نصف مليار دولار أعلن تخصيصها لإعادة إعمار ما تم تدميره، وفرحت زعامات غزّة بما رأته تحولًا جذريًا في السياسة الرسمية المصرية التي صنفت هذه المقاومة إرهابًا وضيقت عليها الخناق.
وفي هذه الأجواء الاحتفالية الصاخبة، عدنا مجدّدًا لتناول القضية في إطارها الضيق: غزّة وإعادة إعمارها وتخفيف حدة الأوضاع الإنسانية لسكانها، ورفع الحصار المفروض عليها، عن طريق معبر رفح .. وفي مقابل ذلك، أخذت أخبار انتفاضة المقدسيين وأهالي الشيخ جرّاح في التراجع، وهدأت المسألة شيئًا فشيئًا حتى قاربت على الخمود، فعاود غلاة المستوطنين المتطرفين الحشد لمسيرة شطب اسم فلسطين وابتلاع كل مساحاتها لمصلحة حلم "أرض صهيون"، وانتعشت مجدّدًا سوق التسوية والتهدئة بين"إسرائيل وغزة" وغابت، أو غيبت فلسطين.
ووسط هذا الزحام الكثيف من الوقائع والأحداث المتسارعة، كان جل اللاعبين يتجاهلون الموضوع الأساس، أصل القضية، ومبتدأها وخبرها: الانتفاضة الباسلة لأهالي القدس والشيخ جرّاح ضد محاولات المحو والإلغاء، حتى بعث الاحتلال، بغبائه وغطرسته وإجرامه، القضية من جديد، بسلسلة الاعتداءات والاعتقالات التي طاولت السيدات، منى الكرد وجيفارا البديري نموذجين صارخين، وإطلاق الرصاص على الشباب وتصفيتهم على الحواجز، حتى وصل بنا الحال إلى أن حركة فتح تدعو إلى النفير العام في جميع المناطق الفلسطينية يوم الخميس المقبل للدفاع عن القدس ضد همجية المستوطنين وجنود الاحتلال.
وهكذا، ينتهي ذلك الفاصل القصير من الابتذال السياسي، وتنفض سوق التهدئة، وتستأنف فلسطين، كل فلسطين، معركتها ضد الاحتلال، ودفاعًا عن وجودها، لا من أجل حزمة تعويضات مؤقتة، أو تلطيف ظروف الاستعمار.
من القدس والشيخ جرّاح بدأت الملحمة، وإليهما تعود. وفي ذلك، فليتنافس المتنافسون، أو: ليس مقبولًا أن يكون هناك متنافسون أصلًا في لحظة تفرض على جميع الفلسطينيين أن يكونوا صفًا واحدًا على طريق المقاومة، من غزّة إلى الجليل الأعلى، كل على قدر استطاعته.
أضف تعليقك