القصة ليست حبًا جارفًا نبت فجأة وأينع وأثمر واشتعل كالجمر، ثم امتدت ألسنته حاملة 500 مليون دولار، اعتذارًا إلى غزة عن أيام الهجر والقطيعة. القصة بانت معالمها مع استثمار أدخنة البخور التي امتدت كسحاب كثيف في السماء، احتفالًا بحالة قومية عروبية نضالية، أمسكت بثيابهم فجأة، في تمرير الخبر الكارثة/ الصاعقة: لا غضاضة في أن تنفذ إثيوبيا عملية الملء الثاني لسد النهضة.
أعلنها صريحة وزير خارجية السيسي على شاشات السيسي في حوار مع مذيع السيسي، وكأنه يبارك للإثيوبيين الملء الثاني، الذي كان خطًا أحمر ناريًا وفق خطاب متلفز للسيسي، بدأ الناس بعده مباشرة يعدّون على أصابع اليدين الأيام والساعات المتبقية على سماع البيان العسكري رقم واحد، الذي يعلن فيه مذيعٌ ذو صوت أجشّ، أن قواتنا الباسلة نجحت في إنجاز مهمة إنقاذ مصر وحمايتها من العطش، بتدمير سد النهضة وإحالته إلى كومة من التراب، إنفاذًا للتوجيه الصادر من القائد الأعلى للقوات المسلحة.
كان الجميع مشتبكين حول القنبلة التي فجرها، عبد الفتاح السيسي، بإعلانه عن تخصيص نصف مليار دولار لإعمار غزة، لتنطلق بعدها مسيراتٌ عارمةٌ على الشاشات وساحات التواصل الاجتماعي، تهتف بحياة "زعيم العرب" كما وصفته صحيفة الأهرام التعبيرية العريقة، فيما شرع فيلق المذيعين الذين كانوا يحلمون، قبل سنوات قلائل، بدكّ غزّة وتدميرها فوق رؤوس أهلها المقاومين، شرعوا في تجهيز عدّة الحرب، استعدادًا للزحف إلى غزة أولًا لإعمارها، ثم التقدّم إلى القدس المحتلة لتحرير المسجد الأقصى، من قبضة العدو.
فجأة، تحوّلت الشاشات إلى شلالات وطنية كاسحة، وصارت الميكرفونات خراطيم عملاقة تتدفق منها عبارات من زمن الستينيات و"صوت العرب" وترشّ وجوه المشاهدين بمصطلحات "الكيان الصهيوني" و"العدو الغاصب" و"أميركا الشيطان الأكبر" و"حي على الجهاد".
لم يكن هناك أفضل من هذا الطقس الهستيري، لكي يقول وزير خارجية السيسي: مبروك علينا الملء الثاني يا جماعة.
كل هذا الضجيج المفتعل لم يصرف الناس عن السؤال: هل نحن بصدد إعمار غزة أم ترميم الاحتلال؟ أم دفن قضية مياه النيل وسد النهضة تحت أنقاض البنايات المهدمة في غزة؟ الشاهد أن السيسي يعتقد أن دويّ مفاجأة النصف مليار المهداة من نظامٍ يتعاطى قرضًا من صناديق المانحين كل طلعة نهار، يحقّق له وللمحور الذي يرتبط به هدفين اثنين. فمن ناحية نحن بصدد عملية اختطاف قضية فلسطين من الشارع العربي، الذي تفاعل مع ملحمة الصمود السلمي للمقدسيين وعرب 48 التي امتزجت ببطولات المقاومة في غزة، واقتياد القضية مجدّدًا إلى السراديب المظلمة للنظام الرسمي العربي، أو إدخال مشروع المقاومة عنوة إلى ثلاجة السيسي، وبذلك يستكمل النظام الرسمي العربي خذلان غزة بتسليمها لشخصٍ قال عنه الصهاينة إنه صهيوني أكثر منهم، تحت شعارات إعادة الإعمار الزاعقة.
ومن الناحية الأخرى، يتصوّر السيسي ودائرته أن هذه المعمعة، ذات الصخب والضجيج ودقات الطبول العملاقة والاستعراضات الإكروباتية التي تخطف الأبصار والعقول، تصلح لإعلان وفاة النيل، والتخلي عن الحقوق المصرية التاريخية فيه، والتراجع المشين عن تلك الخطوط الحمر التي كان من المفترض أن يُراق على أطرافها الدم، دفاعًا عن شرف النهر العظيم.
على أنه بينما يطبّل الطبّالون، ويرقص الراقصون في زفة "زعيم العرب" كان الشارع العربي يتابع، بسخريةٍ مريرةٍ من العرض وأبطاله، معلنًا أنه لا يصدّق شيئًا من ذلك كله، فيما كان الشارع المصري، باستثناء مليشيات السيسي الإلكترونية، يستفيق على الكارثة التي أعلنها وزير الخارجية سامح شكري: ليس للنيل من يحميه ويدافع عنه.
حتى في الكيان الصهيوني، لم يستقبل أحد إعلان السيسي "الجهاد من أجل غزة" بأي شكل من أشكال الانزعاج والتململ، بل على العكس، أبدى المعلقون الصهاينة ترحيبًا وارتياحًا لخطوة السيسي، فيكتب، تسيفي بارئيل، في صحيفة ها آرتس، إن "مصر تقدَر أن سيطرتها الاقتصادية على غزة وسيطرة إسرائيل على الضفة ستحيّد ضرر حركة حماس السيء، والتي ستضطر إلى العمل في إطار فلسطيني أوسع، وفي نفس الوقت يمنحها أداة تأثير على ما يجري في كل فلسطين وليس فقط في غزة".
مرة أخرى: من سفك الدماء لن يصون المياه، ومن فرّط في النيل، لن يكون حريصًا على القدس أو غزة، مهما كان الاستعراض مبهرًا والموسيقى صاخبة.
أضف تعليقك