بقلم.. قطب العربي
بدت دعوة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب لتجديد الفقه وعدم تقديس التراث الفقهي مفاجئة، بل ربما صادمة للبعض، ذلك أن الشيخ ذاته كان الأكثر تشددا في مواجهة المتطاولين على التراث الإسلامي والرافضين لتقديسه، ولا نزال نتذكر مواجهته الشهيرة على الهواء مباشرة مع رئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد عثمان الخشت، في 29 كانون الثاني/ يناير 2020، ضمن أعمال مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي، والتي أعلن فيها الشيخ "أن الفتنة التي نعيشها الآن هي فتنة سياسية وليست تراثية، وأن السياسة تخطف الدين اختطافاً حينما يريد أهلها أن يحققوا هدفا مخالفا للدين".
لقد ظل الطيب سدا منيعا أمام دعوات تجديد الخطاب الديني التي تزعمها السيسي بنفسه، ما دفع الأخير للشكوى العلنية "انت تعبتني يا فضيلة الإمام" حين رفض الطيب عدم الاعتداد بالطلاق الشفهي استجابة لطلبه، لكن الطيب الذي تصدى لأكبر رأس في الدولة المصرية بشكل علني حوله إلى بطل شعبي في نظر الكثيرين فاجأ متابعيه في العشر الأواخر من رمضان بمراجعات فقهية جديدة في أحاديثه الرمضانية اليومية (التي يبثها عبر الصفحة الرسمية لمشيخة الأزهر وتنقلها عنها القنوات المصرية).
وقد تركزت المراجعات على مواقف فقهية خاصة بالمرأة وتهنئة غير المسلمين، وهو ما يدفع للتساؤل: هل تراجع شيخ الأزهر عن المواقف الفقهية التقليدية للأزهر تجاه هذه القضايا تحت الضغوط السياسية؟ أم أنها جاءت نتيجة بحوث علمية في مؤتمرات وورش نظمها الأزهر بمشاركة كبار فقهائه، كما قال الشيخ نفسه تنفيذا لدعوته لاجتهاد جماعي منذ العام 2015؟
هل تراجع شيخ الأزهر عن المواقف الفقهية التقليدية للأزهر تجاه هذه القضايا تحت الضغوط السياسية؟ أم أنها جاءت نتيجة بحوث علمية في مؤتمرات وورش نظمها الأزهر بمشاركة كبار فقهائه، كما قال الشيخ نفسه تنفيذا لدعوته لاجتهاد جماعي منذ العام 2015؟
شملت المراجعات الفقهية الجديدة الخاصة بالمرأة جواز توليها الوظائف العليا والقضاء والإفتاء، والسفر دون محرم متى كان آمنا، كما أوضحت أن الطلاق التعسفي بغير سبب حرام وجريمة أخلاقية، وأنه لا وجود لبيت الطاعة في الإسلام، وأنه لا يحق للولي منع تزويج المرأة بكفء ترضاه دون سبب مقبول، وأن للمرأة أن تحدد لها نصيبا من ثروة زوجها إذا أسهمت في تنميتها (وهي مراجعات ستبنى عليها قوانين جديدة، وستكون لها تأثيرات اجتماعية واسعة). ورغم أن الأزهر لم يكن له موقف متشدد من تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، إلا أن شيخ الأزهر حرص على تأكيد ذلك في حلقة خاصة كرد على اجتهادات سلفية متنوعة بعدم جواز تلك التهنئة واعتبارها إقرارا بديانات الآخرين.
ليس لمثلي أن يعترض على اجتهادات أو مراجعات فقهية صدرت من الأزهر، بل لا يوجد عاقل يرفض الاجتهاد، فللمجتهد أجران إن أصاب وأجر إن أخطأ، لكن يظل من حق أي مسلم أن يطمئن لهذه الاجتهادات والمراجعات، وأنها جاءت بالفعل نتيجة بحث فقهي جماعي وليست نتيجة ضغوط سياسية محلية أو دولية. وهنا يلزم الأزهر أن ينشر تفاصيل المؤتمرات والبحوث العلمية التي تناولت تلك القضايا الجدلية، وكما يحدث في المحاكم حين يتلو القاضي نص الحكم مختصرا خلال الجلسة، فإنه ينشر الحيثيات الكاملة لحكمه خلال فترة زمنية محددة حتى يتيح لهيئات الدفاع قراءة الحيثيات والاقتناع بها أو تقديم طعون قانونية عليها. وقد قرأ شيخ الأزهر في كلماته الرمضانية نصا ملخصا للمراجعات والاجتهادات الجديدة، وننتظر منه الحيثيات لتطمئن قلوبنا.
من حق أي مسلم أن يطمئن لهذه الاجتهادات والمراجعات، وأنها جاءت بالفعل نتيجة بحث فقهي جماعي وليست نتيجة ضغوط سياسية محلية أو دولية. وهنا يلزم الأزهر أن ينشر تفاصيل المؤتمرات والبحوث العلمية التي تناولت تلك القضايا الجدلية
وإذا كانت أهم المراجعات بخصوص المرأة وغير المسلمين قد وردت في العشر الأواخر من رمضان، فإن الشيخ الطيب مهد لهذه الاجتهادات منذ بداية الشهر بالحديث عن الوسطية والسماحة والثوابت والمتغيرات، والعقبات أمام حركة التجديد. وإذا كان الشيخ قد رد بشدة على كلام رئيس جامعة القاهرة الذي يمثل موقف التيار العلماني الرافض للتراث الفقهي الإسلامي، فإن الشيخ عاد لقبول بعض ما رفضه من قبل، وإن غلف كلامه بالدفاع عن التراث، وأنه "لم يكن عائقا للأمة عن التقدم والتألق والأخذ بأسباب القوة والعزة والمنَعَة"، و"أن سوء الفهم لمباحث "الأمر" في التشريع الإسلامي كان سببا في مزايدات الآراء والفتاوى المتشددة، وعرض أحكام الشريعة عرضا مدلسا مغشوشا، كذلك لعب الجهل بمباحث "النهي" دورا خطيرا في تحويل الإسلام إلى قائمة من الممنوعات، تحرم على الناس ما أحله الله لهم، فقدموا إسلاما غريبا شكلا وموضوعا" (27 نيسان/ أبريل 2021).
وأن "من أهم العوامل التي شكلت ما يشبه العوائق على طريق التجديد؛ عدمُ التفرقة بين ما هو ثابت وما هو متغير، وأن صيغة معينة من الصِّيغ الفقهية في العصور الخوالي، اكتسبت شرعية الثبوت وشرعية استبعاد الصيغ الأخرى التي تحقق ذات المقصد، لا لشيء إلا لأن هذه الصيغة استحسنها نظام اجتماعي معين" (28 نيسان/ أبريل 2021).
وأن "التجديد الدائم في التراث هو المنوط به بقاء الإسلام دينا حيا متحركا ينشر العدل والمساواة بين الناس، والتراث حين يتخذ من التجديد أداة أو أسلوبا يعبِّر به عن نفسه يشبه التيار الدافق، والنهر السيال الذي لا يكف لحظة عن الجريان، وإلا تحول إلى ما يشبه ماء راكدا آسنا يضر أكثر مما يفيد" (29 نيسان/ أبريل 2021).
و"إن الدعوة لتقديس التراث الفقهي، ومساواته في ذلك بالشريعة تؤدي إلى جمود الفقه الإسلامي المعاصر، نتيجة تمسك البعض بالتقيد - الحرفي - بما ورد من فتاوى أو أحكام فقهية قديمة كانت تمثل تجديدا ومواكبة لقضاياها في عصرها" (30 نيسان/ أبريل 20121).
ومختتما مقدماته بأن "أخطر عقبات التجديد هي: فتاوى عتيقة لم تعد تنفع المسلمين اليوم، والترويج لفتاوى ماجنة تصدر عادة إما من جهلاء بالإسلام وعلومه وتراثه، يقومون بدور معين مرسوم في تشويه مقدسات المسلمين، وإما من منتسبين إلى العلم يهون عليهم بيعه في سوق المنافع وبورصة المناصب والأغراض الدنيا" (1 أيار/ مايو2021).
من الواجب أيضا التنبيه أن الأزهر مستهدف بشدة من القوى المتربصة بالإسلام، والتي ترى الأزهر عقبة كؤودا أمام مساعيها لتدجين هذا الدين، وتفريغه من مضمونه، وبالتالي فإن الخوف أن تراجعا تحت تلك الضغوط ستتبعه تراجعات أخرى، لتقزيم دور الأزهر
ومع تقديم حسن الظن الواجب تجاه الأزهر ومشيخته، فإن من الواجب أيضا التنبيه أن الأزهر مستهدف بشدة من القوى المتربصة بالإسلام، والتي ترى الأزهر عقبة كؤودا أمام مساعيها لتدجين هذا الدين، وتفريغه من مضمونه، وبالتالي فإن الخوف أن تراجعا تحت تلك الضغوط ستتبعه تراجعات أخرى، لتقزيم دور الأزهر، وصولا إلى نزع كل صلاحياته الدستورية باعتباره المرجع الأعلى في الدعوة والشئون الإسلامية (المادة 7 من الدستور: الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شئونه، وهو المرجع الأساسى فى العلوم الدينية والشئون الإسلامية، ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية فى مصر والعالم. وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه. وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء).
من المؤسف أن يصف شيخ الأزهر في تقديمه لهذه المراجعات الجديدة أيام ثورة يناير العظيمة بأنها "حالكة السواد". نحن لم ننس بعد أنه كان جزءا من نظام مبارك، ومن لجنة السياسات في الحزب الوطني الحاكم حينئذ، وأنه رفض تقديم استقالته من الحزب في أيام الثورة الأولى، وأنه هاجم الثورة أيضا في مهدها، لكن مواقفه التالية دفعت الكثيرين للتغافل عما سبق. ونذكر هنا بكل تقدير تلك الوثائق التاريخية التي أصدرها الأزهر دعما لمسار الثورة المصرية، ودعما للربيع العربي، وحسما لجدليات وخلافات بين القوى السياسية حول قضايا سياسية وهوياتية، وحقوقية، كما نحفظ له موقفه الرافض لسفك دماء المعتصمين في رابعة والنهضة، لكن توصيف شيخ الأزهر لليالي الحرية والديمقراطية التي لم نعش لها في مصر مثيلا خلال العقود الماضية بأنها "حالكة السواد" هو قول مردود بل مستفز. وليتذكر شيخ الأزهر أن تلك الثورة كانت صاحبة الفضل عليه شخصيا، وعلى الأزهر حين نصت في دستورها على استقلال الأزهر بشكل حقيقي، وعلى حصانة منصب شيخ الأزهر من العزل كما أسلفنا، وهو ما غل يد السيسي حتى الآن عن عزله رغم المناوشات بينهما.
أضف تعليقك