كانت غزوة بدر الكبرى في العام الثاني للهجرة أول مواجهة عسكرية حقيقية بين المسلمين والقرشيين، الذين حاربوا الدعوة وضيَّقوا على أهلها وأذاقوهم مختلف أنواع التعذيب والتنكيل، وكانت الغزوة بما حققته من نصرٍ عظيمٍ لدين الله تعالى على أهل الكفر، أهم المعارك العسكرية في تاريخ الأمة.. إلا أن لها بُعدًا إعلاميًّا قد لا يلتفت إليه البعض كثيرًا، وهو المتمثل في الصراع بين إسقاط هيبة قريش في نفوس العرب وغطرستها في موجهة المسلمين من جهة، ومحاولة القرشيين التشبث بهذه المكانة وتلك الهيبة التي ينال منها المسلمون من جهةٍ أخرى.
إضعاف مكانة قريش
كانت قريش تتمتع بمكانةٍ متميزةٍ ومهابةٍ عظيمةٍ في نفوس العرب، ساهم في ذلك عدة عوامل أهمها على الإطلاق وجود بيت الله الحرام، وقيام قريش برعايته وضيافة أهله، وقصة مصرع أبرهة حاضرة في أذهان العرب فقد "كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة، وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش، مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين، حيثما حلوا.. وجدوا الكرامة والرعاية، وشجعهم (ذلك) على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة- عن طريق القوافل- إلى اليمن في الجنوب، وإلى الشام في الشمال، وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين: إحداهما إلى اليمن في الشتاء، والثانية إلى الشام في الصيف.
ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء؛ وعلى ما كان شائعًا من غارات السلب والنهب، فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية، وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة؛ وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول، في أمانٍ وسلامٍ وطمأنينة" (1)
ربما كانت مهابة العرب لقريش ومكانتها جعلت كثيرًا من قبائلهم تقف موقفًا سلبيًّا من الدين الجديد الذي يدعو له محمد- صلى الله عليه وسلم- وأتباعه؛ حفاظًا على العلاقات الخارجية بين هذه القبائل وقريش، ضد المسلمين الذين خرجوا عن طوع القوة المهابة في جزيرة العرب.
فكانت لغة المصالح المشتركة عاملاً مهمًّا في إعراض أهل الطائف عن إتباع الدين الجديد عندما دعاهم لذلك النبي- صلى الله عليه وسلم، فقد "كانت لقريش أطماع في الطائف ولقد حاولت في الماضي أن تضم الطائف إليها، ووثبت على وادي وج؛ وذلك لما فيه من الشجر والزرع، حتى خافتهم ثقيف وحالفتهم"(2)، فهذه المصالح المشتركة- إذن- والخوف من قريش ومكانتها جعلت أهل الطائف يقابلون دعوة النبي- صلى الله عليه وسلم- بجفاءٍ وغلظة"، بل بلغوا في السفه وسوء الأدب معه"(3) وأغروا به صبيانهم وسفهاءهم.. على النحو الذي سجَّله رواة السيرة.
إذن نحن أمام قبيلة مهيبة على مستوى جزيرة العرب.. والتعرض لأحد خطي تجارتها الرئيسين- بلا شك- سوف يُضعف هيبتها في النفوس وينال من مكانتها لدى العرب، وربما يجعل الكثير من قبائل العرب تُعيد النظر في تعاطيها مع قضية "قريش- محمد".. أو على أقل تقدير ربما تقف بعض هذه القبائل موقفًا حياديًّا تجاه القضية.
الحفاظ على الهيبة والمكانة
أدرك أبو جهل ونفرٌ من زعماء قريش أن هدف تعرُّض المسلمين لتجارتهم ليس مجرَّد الاستيلاء على الأموال التي سبق وأن صادرها القرشيون من المسلمين في مكة، إنما هناك هدف آخر أكثر خطورةً يتمثل في ضرب هيبة قريش في نفوس القبائل العربية، فكان إصرار زعماء قريش على قتال المسلمين رغم علمهم بنجاة القافلة، بعدما اتجَّه بها أبو سفيان غربًا بمحاذاة البحر، وبعدما أمن على سلامة القافلة أرسل إلى زعماء قريش وهو بالجحفة برسالةٍ أخبرهم فيها بنجاته والقافلة، وطلب منهم العودة إلى مكة، إلا أن أغلب زعماء قريش أصروا على التقدم نحو بدرٍ من أجل تأديب المسلمين وتأمين سلامة طريق التجارة القرشية، وإشعار القبائل العربية الأخرى بمدى قوة قريش وسلطانها، وقال أبو جهل مقولته الشهيرة: "لا نرجع حتى نرد بدرًا فنقيم ثلاثًا ننحر الجُزر، ونطعم الطعام، ونشرب الخمر، وتعزف القيان علينا، فلن تزال العرب تهابنا أبدًا".. هذه الحالة من الخروج في غطرسة وتكبر هي التي عبر عنها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)﴾ (الأنفال).
النهاية
أراد المسلمون أن يغنموا أموال قريش ويضربوا مكانتها بين العرب إلا أن مشيئة الله تعالى لم ترضَ للمسلمين أن يغنموا من غير قتال، وشاء الله أن تسقط مهابة "قريش التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزها وكبريائها تحاد الله ورسوله: وعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة والانكسار والهزيمة"(4) فتسقط غطرستها تحت أقدام المسلمين في ميدان القتال، ويكون للواقعة دويها في جزيرة العرب بعد أن ينتصر الجيش الأضعف عسكريًّا، (المسلمون نحو ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً والقرشيون ما بين التسعمائة والألف)، ويُقتل أئمة الكفر من أهل قريش، ويبدأ التمهيد لعلاقاتٍ خارجيةٍ جديدةٍ بين المسلمين والقبائل العربية.
-----------------
الهوامش:
(1) تفسير سورة قريش من كتاب "في ظلال القرآن" للشهيد سيد قطب
(2) السيرة النبوية دروس وعبر للدكتور محمد علي الصلابي
(3) السيرة النبوية لابن هشام
(4) تفسير الآية 47 من سورة الأنفال "في ظلال القرآن" للشهيد سيد قطب
أضف تعليقك