الأخُ القُرْآنيّ
(1) كان خُلُقُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحْبِهِ ومَنْ والاه، واهتَدَى بهداه.
وبعد؛ فقدْ أرادَتْ أمُّ المؤمنينَ عائشةَ رضي الله عنها أنْ تُقدِّمَ لنا شخصيَّةَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَتْ (فيما أخرجه مسلم) عن أخْلاقِهِ، فقالتْ للسَّائِلِ: «أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟» قال: بَلَى، قَالَت: «فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ»، وفي حديث آخر قالت لأَبِي الدَّرْدَاءِ حين سألها: «كَانَ خلقُهُ الْقُرْآنَ، يَغْضَبُ لِغَضَبِهِ، وَيَرْضَى لِرِضَاهُ».
وعند البخاري في (الأدب المفرد): أنَّ أمَّ المؤمنينَ أرادتْ أنْ تقدِّمَ صُورةً عَمَلِيةً تفسِيريةً لهذا، فقالت ليَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ حين سألها: مَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، تَقْرَؤُونَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَتِ: اقْرَأْ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ، قَالَ يَزِيدُ: فَقَرَأْتُ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ إِلَى ﴿لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾، قَالَتْ: «هَكَذَا كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
أيْ أنَّ أخلاقَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانتْ ترجمةً عمليةً لكتابِ الله، فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرآنًا يمشِي بين الناس.
(2) شَخْصِيَّةُ الأخِ القُرْآني
لهذا عُنِيَ الإخوانُ المسلِمُونَ بأنْ يجعلوا كتابَ اللهِ تباركَ وتعالى أوَّلَ أوْرادِهم، وكان من تعهُّدِهم أنْ يُرتِّبَ الأخُ على نفسِه كلَّ يومٍ قراءةَ جزءٍ على الأقلِّ من القرآن الكريم يتلُوه؛ كما يُرتِّبُ على نفسِه قدْرًا من الآياتِ يحفظُه؛ إدراكًا من الإخوانِ لفضْلِ القرآنِ وأثرِه العظيمِ في التربية.
لكنَّ الأخَ المسلمَ القرآنيَّ لا يقبلُ أن يكونَ القرآنُ عندَه مجردَ كلامٍ يُتْلَى أو ترنيماتٍ تُسْمَع، بل هو تعليماتٌ تُحْفَظ، وتوجيهاتٌ تُنَفَّذ، وتربيةٌ تظهرُ في السُّلوكِ والأخلاقِ، وهذا ما يُنَبِّهُنا إليه سيِّدُنا عبدُ الله بنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه حين يقول فيما أخرجه ابن أبي شيبة: «يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ (أي بقيام الليل) إذَا النَّاسُ نَائِمُونَ، وَبِنَهَارِهِ (يعني بصيام نهاره) إذَا النَّاسُ مُفْطِرُونَ، وَبِحُزْنِهِ إذَا النَّاسُ يَفْرَحُونَ، وَبِبُكَائِهِ إذَا النَّاسُ يَضْحَكُونَ، وَبِصَمْتِهِ إذَا النَّاسُ يَخْلِطُونَ، وَبِخُشُوعِهِ إذَا النَّاسُ يَخْتَالُونَ، وَيَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ بَاكِيًا مَحْزُونًا حَلِيمًا حَكِيمًا سِكِّيتًا، وَلاَ يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ صَخَّابًا، وَلاَ صَيَّاحًا، وَلاَ حَدِيدًا».
وليسَ حزنُ الأخِ القرآنيِّ حُزنًا على ما فاتَه من الدنيا، لكنَّه حُزنٌ على تقصيرِه في حقِّ اللهِ، وحزنٌ على أنَّه لم يكن أفضلَ من ذلك؛ فينهضُ إلى التجويدِ والتحسينِ، ويتحوَّلُ من الكسلِ والفُتورِ إلى العملِ والنشاط.
وهكذا كان أبو بكر وعمرُ وسائرُ أصحابِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما وصفتْهم أسماءُ بنت أبي بكر رضي الله عنها حين سألها حفيدُها عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: كَيْفَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُونَ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ؟ قَالَتْ: «كَانُوا كَمَا نَعَتَهُمُ اللَّهُ، تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ، وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ».
(3) الأخُ القُرْآنيُّ مُصْلِحٌ مُجاهِد
لكنَّ هذا الشخصَ القرآنيَّ الباكيَ المحزونَ، إذا جدَّ الجِدُّ، ودعَا داعي الجهاد كانَ فارسَ الميدان، وإذا دخلَ ميدانَ السياسةِ كان أبصرَ الناسِ بالمصالحِ والمفاسدِ، وأقضَى الناسِ لحاجاتِ العبادِ، وإذا عاملَ الناسَ بالدينارِ والدِّرْهَمِ كان أصدقَ الناسِ معاملةً وأكثرَهم أمانةً، وإذا دخلَ بيتَه كان أحسنَ الناسَ عِشْرةً وتربيةً للأولادِ، وإذا رأى الفسادَ والمنكرَ كان أشدَّ الناس بُغضًا له وسعْيًا في إنكارِه وإزالتِه، وإذا دعاه الوطنُ للتضحيةِ كان أسرعَ الناسِ تلبيةً للنداء ونموذجَ البذْلِ والفِداء، وأسخاهم يدًا بالبذْلِ والعَطَاء، وهو في كل ذلك يستجيب لتوجيهات القرآن العظيم
وقدوته في ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام وسلف الأمة الصالح، فأبو بكرٍ الذي يبكِي عند تلاوةِ وسماعِ القرآنِ هو الذي وقفَ وقفةَ الأسدِ حين ارتدَّ المرتدُّون، وقال: «وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ وَلَوْ انْفَرَدَتْ سَالِفَتِي» السالِفَة: صَفْحة العُنُق، والمعنى: حتى أموت أو حتى يُفَرَّق بين رأسي وجَسدي)، وعمرُ بنُ الخطَّابِ الَّذِي كان بكاؤُه عندَ قِراءةِ القرآنِ يُسْمَعُ في آخرِ المسجدِ؛ هو الَّذِي فتحَ بيتَ المقدسِ وبلادَ فارس والروم، وعمرُ بنُ عبدِ العزيز الَّذي وقعَ مَغْشِيًّا عليهِ من سماعِ آيةٍ من القرآنِ؛ هو الخليفةُ الحازمُ الَّذي أصلحَ الله بهِ ما اعْوَجَّ مِنْ أمْرِ هذهِ الأمةِ.
وعلى هذَا المنْوالِ حرَّكَ القرآنُ الإخوانَ المسلِمين إلى حَمْلِ رايةِ الجهادِ في كلِّ الميادينِ، بدْءًا من ميدانِ جهادِ النُّفوسِ، حتى ميدان قتالِ أعداءِ اللهِ وأعداءِ الأمَّةِ، ومرورًا بميدان جهادِ الظالمين والمنافقين، والأمثلةُ أكثرُ من أنْ تُحْصَر، ويكفِي أنْ تُلقِيَ نظرةً عَجْلَى على شهداءِ الثورةِ المصريةِ المباركةِ في ميادينِ الشَّرفِ في رابعةَ والنهضةِ ورمسيس والحرسِ الجمهوريِّ والاسكندرية وغيرها، لتُدْرِكَ أنَّ أكثرَهم كانَ من حَمَلَةِ القرآنِ وحُفَّاظِه، وتنضَحُ سِيَرُهُم الذاتيَّةُ بتحققِ أخلاقِه وآدابِه في سلوكِهم وحياتِهم.
(4) شخصِيَّةُ الأخِ القُرآنيِّ كيفَ تتفاعَلُ معَ آياتِ القُرْآن
الشخصيَّةُ القرآنيَّةُ التي يريدُها الإخوانُ المسلمون شخصيَّةٌ تتربَّى على مائدةِ القرآنِ، فتجمعُ الخيرَ من جميعِ جوانبِه، وتحرِصُ على صلاحِ القلبِ وصلاحِ البَدَنِ، وتحرِصُ على أنْ تأخُذَ من الدُّنيا حظَّها، وألَّا تَدَعَ في الآخرةِ نصيبَها، وتردِّدُ صباحًا ومساءً ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ (الأنعام 162)، فليسَتْ صلاتُها فقط لله، وليس نُسُكُها فقط للهِ، بلْ حياتُها كلُّها لله ربِّ العالمين ، بل مماتُها للهِ ربِّ العالمين، وإذا نزلتْ بها الشَّدائِدُ لجأَتْ إلى اللهِ فيها ولم تلجأْ فيها إلى مخلوقٍ، وكان اللهُ أسبَقَ إلى قلبِها، فتعرضُ أحوالَها علَى القرآنِ، وتستمِدُّ مواقفَها من مَعِينِه، وتضبطُ بوصلتَها على تعاليمِه، لتقدم نموذجًا عمليًّا للتفاعُلِ مع القرآنِ، مقتديا بذلك الجيل الكريم من الصحابة والصالحين، وقد نقل ابن كثير عن بَعْض السَّلَفِ أنه قَالَ: «كُنْتُ إِذَا قرأتُ مَثَلًا مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ أَفْهَمْهُ بَكَيت عَلَى نَفْسِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ﴾».
وأخرج الدارمي عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: «مَا جَالَسَ الْقُرْآنَ أَحَدٌ فَقَامَ عَنْهُ إِلَّا بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ» ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾.
قال القرطبي معلقا: « وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾.
هذه هي النماذجُ التي يريدُ الإخوانُ المسلمونَ من جديدٍ أن يبعثُوها، وتلك هي الشخصيَّةُ التي يُريدُ الإخوانُ المسلمُون أنْ يُحقِّقوها، والتي يصنعُها القرآنُ الكريمُ، فتُبَيِّضُ وجهَ الحياةِ، وتُنَضِّر جبينَ الدنيا، بالعملِ الجادِّ، والتضحيةِ الصادقةِ، والثَّباتِ القَوِيِّ، والدعوةِ الدائبةِ إلى اللهِ على بَصيرةٍ، حتَّى يُحقَّ اللهُ الحقَّ بكلماتِه ويقطعَ دابِرَ الكافِرين، وسأقدم في الدروس التالية بعض تلك النماذج العالية من التفاعل مع القرآن لتكون منارا وتدريبا لكل سالك على الطريق القويم.
فأَقْبِلوا على القرآنِ أيُّها الإخوانُ، وتَضَلَّعوا من عُلومِه ومعارفِه، واقْبِسُوا من أنوارِه، وتأدَّبُوا بآدابِه، وحقِّقوا في واقِعِكم معنى هُتافِكم الدائِم (القُرْآنُ دُسْتُورُنَا)، واللهُ معَكم، ولن يَتِرَكُمْ أعمالَكم.
أضف تعليقك