ما أعذبها ساعة تلك التي يخلو فيها الإنسان إلى نفسه بعد متاعب اليوم وعناء العمل، وما أحلاها فترة حين يتخلص المرء من جلبة الحياة وضوضائها، ثم يسمو بروحه في هذه الخلوة إلى فضاء من الأخيلة اللذيذة والخواطر العذبة.
ألا إن رمضان في شهور العام هو تلك الساعة الحلوة في ساعات اليوم؛ فهو شهر خلوة نفسية يتجرد فيها الإنسان معظم وقته عن مطالب المادة ولوازم الشهوات، وتسبح نفسه في عالم كله جمال وروعة وأنس وبهجة.
وإن الفواصل في كل شيء أمر لا بد منه لتجديد النشاط، وتوليد القوة، وإعادة السرور واللذة، تلك سنة الله التي جبل عليها نواميس الخليقة جميعًا، أفلست ترى الليل فاصلة بين النهارين، والنهار فاصلة بين الليلين؟ وتصور كيف تكون الحال إذا فقدت هذه الفواصل.
أولست تشعر بالنوم فاصلة بين اليقظتين، واليقظة فاصلة بين النومين، وما بالك إذا استبدت بك اليقظة أو دام عليك النوم سرمدًا؟
وأحلى ما تكون هذه الفواصل عذوبة إذا كان ما قبلها من الأعمال فيه شدة وفيه عنف، وأحب ما تكون هذه الفواصل إلى النفس إذا طالت عليها مدة المزاولة، وغابت عنها الفترة الفاصلة.
وبعد، فشهر رمضان هو فاصلة العام؛ يدرك النفس الإنسانية وقد غرقت في المادة إلى أذقانها، وزاولت عملا شاقًّا في مكافحة ما يحيط بها من ظروف الحياة ومطالبها، حتى إذا جاء رمضان سما بها إلى عالمها، وجردها من كل ما يحيط بها، وطاف بها في عالم طالما استروحت إليه، وحنَّت إلى رياضه ومعانيه، ولهذا كان رمضان شهرًا فاضلا ممتازًا له فضله وقدسيته وأثره وميزته.
كان رمضان في الجاهلية فاضلاً ممتازًا، جعلته العرب لتعبُّدها وخلوتها وتحنثها وعزلتها، يتخلص فيه المتألهون من قبائلهم؛ فيعبدون الله أيامه ولياليه، حتى إذا انتهت أوقاته المباركة طافوا بالبيت، ورجعوا إلى ما كانوا فيه من مزاولة أعمال ومخالطة أقوام، وتلك هي السبيل التي سلكها المصطفى صلى الله عليه وسلم حين أراد الله - تبارك وتعالى - أن يشرف الدنيا برسالته وأن يبعثه رحمة للعالمين.
من أحداث رمضان
وكانت أول آيات القرآن نزولاً إلى هذه الأرض فى شهر رمضان (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185)، وأنت جدُّ عليم بأن القرآن الكريم هو صقال النفوس وطب القلوب ودواء الأرواح، ولأمر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدارس جبريل القرآن في رمضان.
وكانت غزوة بدر - وهي الغزوة التي أيّد الله فيها نبيه، وأظهر دينه لأول عهد المسلمين بالدعوة العملية - في رمضان كذلك (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران: 123).
وكانت غزوة الفتح في رمضان كذلك، وبها نبع انتشار الدعوة في الجزيرة العربية بين مداه، وانتهت الموقعة الفاصلة بين الإيمان والشرك باستيلاء الإيمان على قلب الجزيرة وذروة سنام مدنها وفخر أبنائها ومعقل عزتها وقدسيتها "مكة المكرمة"؛ مستقر بيت الله العتيق (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا) (الفتح: 1-3).
وفي رمضان ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والتي تعمر فيها الأكوان بالملائكة المقربين وتشرف بالروح الأمين.
الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان
ورمضان شهر معمور النهار بالصيام، ومعمور الليل بالقيام، وهو إذ كان شهر الخلوة فقد ميزه الله باستحباب الاعتكاف في المساجد، والابتعاد عن ضوضاء الاختلاط وجلبة التقلب في شئون الدنيا استكمالا لخلوة الروح، وحرصًا على العبادة من فيوضات الحق في هذا الشهر على القلوب الصادقة التوجه إليه القوية الصلة به.
ولقد علم السلف الصالحون ذلك من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتهز فرصة هذا الشهر فيعمره بعدة صنوف من صنوف البر.
يحسن صوم نهاره، وتلك فريضة الله التي فرضها على عباده.
ويفيض جودًا وندى بالصدقات، وهو صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان.
ويعمر ليله بالقيام تهجدًا ونافلة، فإذا صلى بالقوم تجوَّز في صلاته حتى إذا انصرف إلى رحله أطال ثم أطال يقطع الليل تسبيحًا وقرآنًا.
ويدارس جبريلَ كتاب الله بما أن شهر رمضان هو شهر القرآن، وبما أن أولى ما ينصرف إليه هذا النشاط الروحي والزكاء النفسي الذي يشع على الفؤاد من أنوار الصيام والقيام؛ ففهم كتابه، وتدبر آياته ومعانيه، ويعتكف العشر الأواخر، ويشمر ويوقظ أهله، ويشد المئزر.
كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أخذ بسنته أصحابُه الأكرمون - رضوان الله عليهم - وتبعهم على ذلك صالحو هذه الأمة بإحسان؛ فكان منهم من إذا أقبل رمضان ودع أصحابه إلى العيد، ثم انصرف بكليته وجزئيته إلى الطاعة، وفر بجسمه وروحه وقلبه وفؤاده إلى الله.
رمضان عند بعض المعاصرين
ثم خلفت لهم بعد ذلك خلوف أضاعت الصلاة واتبعت الشهوات، وأضاعت حكمة الفرصة، ونسيت أسرار الطاعات، وهدرت كرامة الشهر الفاضل، وتجاهلت قدسية الفريضة المحكمة؛ فكان منها قوم استحكمت على قلوبهم الغفلة، وران عليها ما كانوا يكسبون؛ فأفطرت والناس صيام، وجاهرت بالعصيان في غير عذر شرعي، وبدون موجب صحي تحللاً واستهتارًا أو تبجحًا واستكبارًا، ويؤسفك ويؤسفني ويؤسف كل مسلم أن تفشو هذه الفاشية السوء بين سراة الأمة وكبارها؛ حتى كادت تحق فيهم الآية الكريمة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام: 123].
هذا فلان باشا يتناول غداءه في "كلوب" - لا أدرى ما اسمه - في نهار رمضان، وهذا فلان يحتسي الخمر في "بار" - أعوذ بالله أن أذكره - وهذا الوجيه فلان يأكل الأكلات الثلاث، ولا يستحيي من البواب والسفرجي والطباخ والخادم، وكلهم والحمد لله صيام.
ولست أنسى ذلك السفرجي الصالح الذي جاءني ذات يوم يلتاع أسى وحزنًا، وينتفض غيرة وألمًا، ويستفتيني في شأنه مع مخدومه العظيم الذي يلزمه أن يقدم له الطعام صباحًا وظهرًا في نهار رمضان.
هذا السفرجي يخاف الله - تبارك وتعالى - ويخشى سطوته، ويتحرج من مساعدة مفطر على إفطاره، وإن كان ذلك بحكم عمله في مورد رزقه، وهذا السيد العظيم في عرف الناس وفي طبقات المجتمع يحارب الله - تبارك وتعالى - ويجاهر بعصيانه، ويستخف بشعور كل أولئك الذين يخشون الله ويخافونه.
أيها الرجل الغافل، خير لك أن تعود إلى الطاعة، وأن تمتثل أمر الله؛ فإن أبيت إلا ما أنت فيه من عصيان، فاعلم أن الله غني عنك وعن صومك وعبادتك، وسوف يحاسبك حسابًا عسيرًا؛ فكن أنت كيف شئت، ولكن لا تستعجل غضبة الله عليك باستخفافك بشعور هؤلاء المستضعفين الصالحين من عباد الله، واحذر أن تصيبك دعوة أحدهم؛ فرب أشعث أغبر ذى طمرين لو أقسم على الله لأبره.
وكان منها قوم آخرون صاموا كما يصوم الناس، وقد يقومون كما يقومون، ولكنهم أبعد ما يكون عن إدراك حكمة الصوم والانتفاع بفضيلة الشهر؛ فهم في نهارهم إما نائمون وإما عاصون بكلمة نابية أو غيبة قاسية أو نظرة جانية أو خطرة جافية، وفي ليلهم متقلبون بين مجالس اللهو والعبث بله المعصية والرفث، وفي طعامهم جشعون نهمون يجمعون الأصناف ويملئون البطون، ورمضان عندهم شهر المآكل الطيبة، والمشارب السائغة، والملاهي والسهرات، والتقلب بين أصناف المسليات.
ولقد كان عهدنا فيما مضى بليالي رمضان أنها ساعات معمورة بالقرآن الكريم، مأهولة بالعبادة، مشغولة بالأوراد، أفضل التسلية فيها زيارة إخوان ومجلس قرآن، فإذا بنا نرى هذه الليالي الفاضلة تتضاعف فيها المعاصي، وتتكاثر فيها الآثام، وتصبح أوقاتها مشغولة بالمنكرات بعد أن كانت مأهولة بالطاعات.
أيها المسلمون..
هكذا يكون الانتفاع بشهر رمضان الذي أوشك أن يزايلكم إلى حيث لا تعلمون من سيستقبله بعد ذلك ومن سيلحقه في طيات الزمن، ولا بد مما ليس منه بد؛ فاغتنموا أوقات رمضان في تجديد أنفسكم، وتطهير أرواحكم، والإقبال على ما يرضي عنكم ربكم، ويضاعف لكم حسناتكم، والله ولي توفيقكم إلى ما يحبه ويرضاه.
أضف تعليقك