بقلم: عبدالرحمن يوسف
لا بد من شرعية للحاكم.. شيخ القبيلة له شرعيته المكتسبة بالنسب والوراثة، نقباء المهن لهم شرعيتهم المكتسبة بالتراضي من "أسطوات" المهنة.. حتى "فتوة" الشارع له شرعية حماية المنطقة..
بعض الحكام يكتسب هذه الشرعية بأصوات الناس في الانتخابات، وبعض الحكام يكتسبها بطرق أخرى، بالوراثة مثلا.. بعضهم يكتسبها بالأمر الواقع، فترى قيادات طبيعية في القرى والنجوع، وجهاء وعلماء وكبراء يحتكم إليهم الناس، ويلجأون لهم في ملماتهم، ومع الوقت تصبح لهم شرعية الأمر والنهي واتخاذ القرارات.
وهناك بعض الحكام شرعيتهم القوة والدم، وهذا النوع يحاول أن يدلس على الناس، فرغم أنه يعلم أن شرعيته القوة والسلاح، ورغم أنه يعلم أن الجميع يعلم أن شرعيته القوة وسفك الدماء، ولا شيء غير القوة.. إلا إنه يحاول دائما أن يظهر بمظهر الحاكم "الشرعي"، لذلك تراه دائما يصوّر نفسه وكأنه الشخص الوحيد الذي ينجز العمل، فتصبح شرعيته "الإنجاز".. ومن خلال إنجازاته المزعومة يشوّش على حقيقة اغتصابه للسلطة، ويشوّش على صراخ الناس بمظالم لا أول لها من آخر..
المستبد لسان حاله يقول: الهدف من الديمقراطية هو تحقيق إنجازات للمواطن.. وأنا أنجز.. فلماذا تطالبون بالديمقراطية؟
ولكن.. هذه الادعاءات لا تصمد أمام أي نظرة فاحصة..
* * *
أولا: لا يوجد إنجازات!
الإنجاز يتطلب تخطيطا، ويتطلب حشدا للقوى والجهود والأفكار والكفاءات، وبالتالي يحتاج حدا أدنى من رضى الناس، وهذه كلها أمور هي معكوس جوهر الاستبداد، لذلك من المستحيل أن يتحقق إنجاز حقيقي في ظل استبداد سياسي.
ما معنى الإنجاز؟
الإنجاز معناه أن يتم العمل الذي يحتاجه الناس، بأقل تكلفة، وفي أقصر فترة، دون التسبب في أضرار أكبر من فائدة العمل المنجز.. وهذا أمر يستتبع أشياء كثيرة، أهمها حرية الحصول على المعلومات، وإمكانية المساءلة، والقدرة على الاعتراض أو حتى النقاش!
بهذا المعنى السابق لا يوجد في مصر إنجازات تذكر، فإنشاء قرى سياحية فاخرة أمر لا يحتاجه إلا أثرى الأثرياء، وإقامة قطارات فاخرة بسرعة الطلقة لتوصيل مليونيرات البلاد إلى هذه المنتجعات لا يمكن اعتباره إنجازا.. الإنجاز في بلد لا يجد غالبية أهله من ساكني العشوائيات ثمن الفول والطعمية لن يكون بتوفير الكافيار لكريمة المجتمع في قصورها!
ما فائدة إقامة مساجد وكنائس وناطحات سحاب.. في بلد لا يملك غالبيته الكاسحة أي تأمين صحي، وليس فيه أي نظام تعليمي في أي مرحلة من مراحل التعليم؟!
* * *
ثانيا: الإنجازات في الطريق الخاطئ
لذلك يضطر الحاكم المغتصب للسلطة أن ينجز ولكن في الطريق الخاطئ، فتراه يقوم بمشاريع حقيقية، ولكنه لم يستشر أحدا فيها، وبالتالي تصبح مشاريع هدفها حفل الافتتاح..
الشعب يحتاج مؤسسات تعليمية، ولكن تحقيق ذلك أمر صعب.. الأسهل أن تبني جسورا، أو أنفاقا.. إنه مجرد عطاء بالأمر المباشر.. والمال موجود.. مال سايب!
الرئيس المخلوع مبارك أمضى ما يقرب من نصف عهده يتحدث عن ما يسمى بـ"توشكى"، وهو مشروع فاشل، أهدرت الدولة فيه مليارات الدولارات، ثم تبين بعد خلع مبارك أن الخبراء الذين انتقدوا المشروع كانوا محقين.. أين مشروع "توشكى" المزعوم الآن؟
قس على ذلك كثيرا من المشارع التي ظهرت في يوم وليلة، مثل المشروع الوهمي المسمى بقناة السويس الجديدة.. التهم هذه المشروع عشرات المليارات من الجنيهات، وفي النهاية تبيّن أنه مشروع غير مجد اقتصاديا، ولم يستفد أحد من المشروع سوى "سيسي" الذي ظهر في لقطة الافتتاح.
* * *
ثالثا: إنجازات بأضعاف التكلفة
إذا كان أمامك مشروع تكلفته مليون دولار.. فما المهارة في إنجازه بعشرة ملايين دولار؟
هكذا هي إنجازات الحاكم المتستبد، دائما تكون بأضعاف التكلفة، وبإمكاننا أيضا أن نضرب مثلا بقناة السويس الجديدة المزعومة تلك، حيث تضاعفت تكلفة المشروع لأن صاحب الشأن قرر إنجاز المشروع في زمن قياسي، فهو يسابق الزمن، ويرغب في تحقيق أي إنجاز قبل أن يخلعه انقلاب آخر!
دائما "إنجازاتهم" بهذا الشكل.. فلو افترضنا أن مشروعا ما تحتاجه الدولة (مثل بعض الأنفاق والجسور التي يتباهون بها الآن).. فإن أحدا لا يستطيع أن يصارح الناس بتكلفة المشاريع الحقيقية، لأنها أضعاف أضعاف التكلفة الاقتصادية..
ولكن.. هل هذه التكلفة المضاعفة أمر يحدث بالصدفة؟ وهذا ما يقودنا إلى.. رابعا!
* * *
رابعا: إنجازات هدفها الإثراء السريع
هذه الجسور والأنفاق التي تراها في كل مكان ليست إلا مشاريع يربح أهل الحكم منها أرباحا طائلة، لذلك لا بد أن تقام بأضعاف تكلفتها.. إنها مشاريع لكي يقتات منها الحاشية، وداعمو السلطة!
ضربت مثالا بما يسمى بمشروع "توشكي" في عهد المخلوع مبارك، لقد كان من فضائح المشروع أن السرقات فيه كانت بلا حدود، لقد اشتروا ماكينات الرفع المخصصة للمرحلة الثالثة من المشروع بينما المشروع ما زال في مرحلته الأولى، كل ذلك ليحصل الكبراء على عمولاتهم.. وفي النهاية خلعت ثورة يناير المجيدة مبارك، وانكشف فشل المشروع أمام الجميع.
* * *
خامسا: إنجازات شخصية.. لشخص الرئيس وآله وصحبه
من أهم سمات الإنجاز في دولة الاستبداد أنه إنجاز شخصي، لا مجال لقسمته على الأمة كلها، ولا أحد يتذكر الشعب في تلك الإنجازات، اللهم إلا عند المطالبة بالتضحية لإنجازها..
المواطن المصري مطالب بالتقشف والصبر على الفقر منذ عشرات السنين، وفي النهاية تحققت إنجازات لعدة رؤساء دون أن يستفيد منها أحد، إنجازات خصمت مئات المليارات من جيوب الناس، ومن مدخراتهم، ومن قيمة عملتهم الوطنية، ومن صحتهم، وتعليمهم، ومكافآت نهاية خدماتهم.. الخ.
بعض الإنجازات تحسب لزوجة الرئيس، أو ابنه المرشح لخلافته، أو محظية من محظياته.. هكذا تسير الأمور في دولة الاستبداد.. في كل مكان وزمان..
* * *
سادسا: تضخيم الإنجازات
من الصعب أن يبقى الحاكم في موقعه عشرات السنين دون إنجازات، مبارك مثلا، له إنجازات، مترو أنفاق القاهرة أقيم في عهده، مشروع القراءة للجميع (برغم كل عيوبه) الذي أشرفت عليه زوجته الحيزبون أقيم في عهده.. وهكذا.. لا بد أن تجد إنجازات في عهود جميع الطغاة في الأرض..
والطاغية يعلم ذلك جيدا، فتراه يلجأ لتضخيم تلك الإنجازات!
إنجازات عصر مبارك المخلوع كلها تعتبر مجرد مشاريع متوسطة الحجم لعمدة مدينة في أي دولة شبه متقدمة.. وهكذا هو الحال مع رئيس جمهورية الأمر الواقع حاليا..
* * *
سابعا: يتم استغلالها للتغطية على الجرائم
الإنجازات في بلاد الاستبداد يتم استغلالها سياسيا إلى أقصى درجة، من أجل تجديد البيعة، ومن أجل تشويه المعارضين، ومن أجل هدم قيم المجتمع.. ولكن من أهم ما تستغل فيه الإنجازات المزعومة هو التغطية على الجرائم.. ومن أوضح الأمثلة على ذلك استغلال النظام المصري لأزمة إغلاق قناة السويس بسبب سفينة "إيفير جيفين" وفرحة المصريين بإعادة فتح القناة.. للتغطية على جريمة قطار سوهاج..
لذلك حاول النظام بشتى الطرق أن يثبت أن من قام بهذا الإنجاز هو هيئة قناة السويس، والحقيقة أن دور الهيئة كان محدودا، والفضل جله للشركة الهولندية التي قامت بتنفيذ المهمة.
* * *
ثامنا: الجرائم إنجازات
وهذه خصيصة من خصائص هذه الأيام السوداء التي نعيشها.. فهذا النظام بلغ به الإفلاس أن حوّل الجرائم إلى إنجازات، فسرقة أموال الناس لبناء القصور أصبحت إنجازا يسمى "بناء الدولة"، وقتل الأطفال والمدنيين العزّل في ليبيا بالطيران الحربي.. أصبح إنجازا يسمى "السرب"، وقتل المواطنين العزّل في الشوارع والميادين.. أصبح عملا بطوليا يسمى "الاختيار 2".. وهكذا.. تحوّلت الجرائم التي يندى لها الجبين إنجازات مع هؤلاء الخونة الظلمة..
في النهاية يدرك المواطن أن الشمس تشرق من الشرق، وإذا وجدت المواطنين يقولون لك أن الشمس تشرق من الغرب.. فاعلم أنهم يسايرون الظالم إلى أن تأتي اللحظة التي يقومون فيها قومة رجل واحد.. فيحملونه إلى المنصة التي تليق به.. حيث يتدحرج رأسه حاملة أفكارها إلى مكانها المناسب.. وحينها تتلاشى الإنجازات، ويصبح إنجازه الوحيد.. أنه رحل!
أضف تعليقك