بقلم: وائل قنديل
مفهومٌ أن يكون تعويم السفينة تعويمًا للسيسي في الوقت ذاته، على مستوى الكتلة التي فقدت حماسها له، وأصابتها نوبة استفاقة من أوهام الرخاء ، لكن غير المفهوم على الإطلاق أن يطفو السيسي فوق مساحةٍ ملحوظةٍ من سطح الكتلة المعارضة له، لتكتشف فجأة أنها صارت تخلط بينه وبين الوطن، وتردّد الشعار الذي تم نحته بحرفية عالية، على نار لوثة تحريك السفينة: كلنا واحد خلف الوطن حين يواجه الخطر.
لا يوجد مواطن واحد يعترض أو يتردّد أو يتقاعس عن حماية الوطن، عندما يكون مهدّدًا، سواء كان معارضًا أو مؤيدًا، غير أن التاريخ يقول لنا، بوضوح، إن المزج بين الزعيم والوطن هو اللعبة المفضلة لكل مستبدٍّ يصادر الوطن، ويودعه في حسابه الشخصي.
المشكلة هنا أنه مع ارتفاع أمواج الابتزاز إلى أقصى مستوياتها، يحدث أن تجد بعضًا ممن يفترض أنهم مصدّات عقلية لهذه الأمواج، وقد اعتلوا الموج وتركوا أنفسهم له، ليتحوّلوا هم أنفسهم من هدف للابتزاز إلى أداة من أدواته، بخضوعهم لهذه اللعبة المكررة.
في هذا الطقس السيء، مطلوب منك أن تكون جزءً من هذه الهستيريا، وإلا ستجد نفسك مصنفًا من الأعداء الكارهين الشامتين، لأنك لم تضع توقيعك على صكّ الإذعان بأن الوطن هو قيادته، حتى لو كانت هذه الفرضية قد تم اختبارها في محطاتٍ سابقةٍ وثبت بطلانها، بل أنها ليست مبالغة حين تقول إن هذه الفرضية سقطت سقوطًا ذريعًا في امتحان جزيرتي تيران وصنافير، وهي اللحظة التي صار معها الوطن في عقيدة حاكميه سلعةً من الممكن أن تباع بالتجزئة أو تهدى لأصدقاء القيادة.
ذلك كله يتم تجاهله أو تناسبه مع صخب الموسيقى المنبعثة من حفلة السفينة التي عامت، أو مع إطلاق تصريحاتٍ من تلك التي تدغدغ حواس الجمهور المهدّد بالعطش عن النيل وحصة مصر فيه، ليرفع الستار عن تمثال ضخم للسيسي 2021، مفروض عليك أن تراه وتتعامل به باعتباره نسخةً جديدةً ومختلفةً عما كان طوال السنوات الماضية، وكأن شيئًا لم يكن، فحين يواجه الوطن تهديدًا وجوديًا، يجب أن يصطفّ الكل خلف حاكمه، وينسى الخلافات. هكذا يريد منك الشطار الذين كانوا ينتظرون الفرصة للالتحاق بالسفينة العائمة.
مرّة أخرى، تجد نفسك مضطرًا لمحاولة إثبات ما هو ثابت وتأكيد ما هو مؤكد، أن معارضة الحاكم ليست معارضة للوطن، وأن التناقض الجذري الكلي مع السلطة لا يعني خلافًا أو خصومة مع الأمة، لكن الشطّار ينقلونك إلى مستوى آخر من الابتزاز، حين يردّدون أن الخلاف مع السيسي لا يجب أن يمنعك من الإشادة بأي خطوة إيجابية يقطعها، وهنا مربط فرس الخداع والتزييف والتضليل، ومحاولة القفز على الموضوع الأساس، وهو أن الخلاف ليس حول الكيفية التي يحكم بها مصر، بل يتعلق بالطريقة التي وصل بها إلى حكم مصر، وهي الطريقة التي إذا تم الإذعان لها سيكون مكتوبًا على مصر ألا تعرف ديمقراطية، أو حكمًا مدنيًا عاقلًا ورشيدًا، في المستقبل المنظور.
منتهى السخف أن تسلم معهم بأن"التعويم يجبّ ما قبله"، أو أنه مع إطلاق أول تصريح عنتري ضد إثيوبيا في ملفّ نهر النيل، يجب إغلاق كل الملفات الداخلية السابقة واللاحقة، لا كلام عن دماء أريقت وأرواح أزهقت وحريات ذبحت، وإنسانية انتهكت ومظالم اجتماعية وطبقية شاعت، فهذا كله مما يهدّد حياة الوطن، الذي يتربّص به الأعداء.
الحاصل أنهم نجحوا في صناعة عاصفة هوجاء من الوطنية الزاعقة، وأوجدوا طقسًا مثاليًا يصير معه ضربًا من الجنون أن ترفض شرعنة الانقلابات وشرعنة السطو المسلح على مخرجات الديمقراطية، وأيضا شرعنة الغدر والخيانة..وقبل كل ذلك وبعده شرعنة القتل والظلم والتحالف مع العدو ومعاداة الشقيق.
وإذا تفوهت بكلمة ضد هذا المجون في ملاطفة الاستبداد الجالس على حجر الوطن، ستجد نفسك متهمًا بالانفصال عن الواقع، والتمسّك بأوهام .. نعم كل المفردات تقول إن نظام السيسي يرفل في شرعية الأمن الواقع، لكن من قال إن على الجميع التسليم والاستسلام لواقع مؤسّس على جريمة؟
الكيان الصهيوني واقع سياسي، والفساد واقع اجتماعي، والترقّي والصعود عن طريق التنازل عن كثير من القيم الأخلاقية واقع وظيفي، هذا كله موجود ومدرك بالحواس، لكنه يستوجب الرفض والمقاومة، إذ ليس مطلوبًا من الناس جميعًا أن يتصهّينوا ويفسدوا ويدوسوا على القيم، كي لا يكونوا متهمين بالانفصال عن الواقع.
أضف تعليقك