بقلم.. وائل قنديل
لدى عبد الفتاح السيسي من الوقت ما يكفي لتصوير لقطات سينمائية مع بائع الموز الرسمي في شارع بمدينة نصر، لكنه لا يمتلك الوقت لزيارة الشهيد، في يوم الشهيد. ولذلك أناب وزير الدفاع لوضع إكليل من الزهور على النصب التذكارى للجندي المجهول بمدينة نصر، ثم ذهب هو لحفلة القوات المسلحة، لكي يبكي متأثرًا أمام الكاميرات، ثم يضحك مبشّرًا بأن جمهورية جديدة تولد في مصر على يديه الكريمتين.
لا تهدر طاقتك في الدهشة من انكشاف حقيقة بائع الموز، المُستعار، صاحب الأدوار العديدة والمتنوعة في المشاهد المصنوعة، ببلادةٍ دراميةٍ منقطعة النظير، لتقديم السيسي في هيئة الزعامات التاريخية، ذات الكاريزما المتفرّدة، فقد تكفّلت "السوشيال ميديا"، سلاح الجنرال الأثير، بفضح ركاكة المشهد، واصطناعه، بأسلوب بائس وفقير فنيًا.
قبل أربعة أشهر فقط، وفي ذروة جائحة كورونا، كان السيسي يقف في تأثّر بالغ أمام قبر الجندي المجهول، لكنه ليس الشهيد المصري للأسف، بل كان ذلك في أثينا، حين كان في زيارة إلى العاصمة اليونانية، ليضع إكليلًا من الزهور على النصب التذكاري، مكتوب عليه: "رئيس جمهورية مصر العربية"، كما نشرت الصحف المصرية وقتها.
أما يوم الشهيد المصري فهو لا يعني عند السيسي سوى ساعات أمام الكاميرات ممسكًا بالميكرفون، لينهال على المصريين تحذيرًا من العدو الذي هو كل أشكال المعارضة، وكل من يفكر في الثورة عليه، وكل من يحاول استعمال العقل والمنطق في مواجهة هذا الطوفان الهادر من الوعود الكاذبة والخرافات والأساطير، التي يبرّر بها تغييب الحريات والحقوق السياسية والاجتماعية.
في يوم الشهيد، كالعادة، يكرّر السيسي كلامه عن مصر المولودة على يديه، الجمهورية الجديدة التي يصنعها الزعيم الملهم من العدم، ويشيد لها عاصمة مقدسة، أسماها "العاصمة الإدارية" وقرّر في سبيل الانتهاء من بنائها وضع جموع الشعب المصري في غلايات الجباية ومحارق الضرائب، وتحريم النقاش وتجريم الكلام، والمضي في مصمصة عظام الدولة العريقة، ذات العاصمة القديمة، القاهرة، عن طريق مصادرة الممتلكات الخاصة، من ناحية، والتوسّع في أعمال القبض والاعتقال والحبس الاحتياطي، بوصفها مصدرًا ثابتًا من مصادر الدخل القومي، المخصّص لتشطيب عاصمة الجنرال المقدسة.
يقول السيسي منتشيًا ومبتهجًا، بعد أن أتقن ذرف دمعتين تلفزيونيتين لمناسبة يوم الشهيد: افتتاح العاصمة الإدارية الجديدة يمثل إعلان جمهورية جديدة وميلاد دولة جديدة.
يعلم القاصي والداني أن هذه العاصمة الجديدة باتت الصنم المقدس الذي يجد المصريون أنفسهم مجبرين على الطواف حوله بالإكراه والغصب، ويدرك الناس أن كل القرارات الاقتصادية الخاصة بمضاعفة الضرائب القديمة واستحداث ضرائب جديدة، و العبث بقوانين البناء، والتهديد بإزالة بيوت الناس بالقوة العسكرية، إذا لم يدفعوا الإتاوات والغرامات، إنما صدرت وتصدر بغرض تحصيل تكاليف الانتهاء من بناء عاصمة السيسي من جيوب المصريين، الذين هم على قيد الحياة الآن، والذين سيولدون من بطون أمهاتهم في قادم الأيام، وفي عنق كل منهم حصة من الديون التي يفرضها الزعيم قدرًا حتميًا على الجماهير مع كل طلعة شمس.
لم يسأل السيسي نفسه، ولم تفكّر جوقة المبرّرين المحيطة به في سؤال مهم: كيف يشعر شعب بالانتماء إلى عاصمة جديدة لجمهورية جديدة، بنيت من أجل شخص واحد، مسكون بأوهام أن كل ما كان قبله عدم، وأن التاريخ بدأ مع قدومه؟ كيف يحب الناس جمهورية مستحدثة، أو عاصمة غير العاصمة التاريخية، وقد أنشئت فوق أنقاض كرامتهم وحقوقهم وحرياتهم، لكي يستمتع بالانعزال فيها أولئك الذين يحتقرون الشعب ويرونه معوقًا للتنمية ومعطلًا للنهضة الخادعة؟ العاصمة التاريخية العريقة، القاهرة جوهرة الدنيا، لم تضج بناسها ولا بتاريخها وجغرافيتها، كما أن الناس لم تزهد فيها أو تحلم بتغييرها، أو استبدال عاصمة طبقية وفاشية بها، فلماذا يسددون ثمن أوهام الجنرال وأحلامه من لحمهم الحي؟ كم مستثمرًا وطنيًا وحقيقيًا في سجون السيسي الآن، بعد الاستيلاء على أمواله وشركاته وممتلكاته التي أفنى عمره في إنشائها، لأنه رفض أن يدفع الإتاوة التي تفرضها سلطة العاصمة الإدارية؟ وكم قرية، وكم منطقة أزيلت وهدمت لكي يبني المسيطرون مشاريع أحلامهم وأوهامهم؟
السؤال الأهم: لماذا يكره السيسي مصر التاريخية، إلى الحد الذي يتوحش معه من أجل اختراع مصر جديدة لا يشعر بها المصريون، ولا تشعر هي بهم؟
أضف تعليقك