بقلم: وائل قنديل
عشر سنوات من الإلحاح على رواية واحدة: لقد تخلّصوا من حسني مبارك لكي يحافظوا على نظام حسني مبارك.
منذ نشر هذا المعنى، أو الاستنتاج، في الصحافة الغربية في العام 2011، وهناك حالة استسلام غير مبرّرة للتوصيف المعتمد لما جرى في مصر، إذ قرّرت أطراف عديدة، في مقدمتها المجلس العسكري في مصر، والنظم المعادية للثورات في الخليج، وكثير من النخب السياسية والأكاديمية، ذات الهوى العسكري، أن تستخدم كل طاقاتها وأدواتها لتثبيت فكرة "الانقلاب الأبيض" بديلًا للثورة الشعبية العفوية.
الاستثمار في فكرة الانقلاب الأبيض الذي نفذه نظام مبارك على مبارك، تضحيةً بالشخص من أجل استمرار المنظومة، لم ينقطع لحظة واحدة، وهي روايةٌ فرح بها الجنرالات كثيرًا واعتنوا بها ووفروا لها كل سبل الرعاية والاحتضان، من دون أن يصرّحوا بها، تاركين المجال لمن يجول بها في أسواق التحليل، ويتسكع بها على نواصي التأريخ، متصنعًا هالةً من الكهنوت الأكاديمي، لتحقيق أكبر قدر ممكن خلخلة يقين المواطن المصري والعربي بقدرته على إنجاز التغيير، وإزاحة النظام الذي نخر فيه السوس.
ذلك كان واحدًا من أشد الأسلحة تأثيرًا في تكفير الجماهير بفكرة الثورة، وانتزاع ثقتها في قدرتها على إلغاء المعادلات القديمة وفرض معادلات جديدة، بحيث ينتهي بها المطاف على جزيرة اليأس من إمكانية تكرار ما تحقق، والتسليم بنظرية "اللا جدوى من المحاولة".
في العشرية الأولى للثورة، وفي ذكرى خلع الجماهير حسني مبارك، أو إجباره على التنحّي، أو التخلي عن السلطة صاغرًا ومجبرًا، يبدو الإلحاح على مقولة "الانقلاب الأبيض" أشدّ من أي وقت مضى، وهذا مفهوم ومنطقي من جانب سلطة عبد الفتاح السيسي، التي تعتمد في مخاطبتها الإدارة الأميركية الجديدة، ودوائر السياسة الأوروبية، اللغة ذاتها التي كان يتحدّث بها حسني مبارك، حين كان يحاول الإفلات من مصير السقوط، مردّدًا تلك المقولات على مسامع الغرب من أن وجوده في الحكم يحافظ على مصالح واشنطن والغرب، ويضمن الاستقرار للشرق الأوسط، ويمنع الإرهاب.
وقد يكون مفهومًا، بدرجة أقل، أن يتبنّى بعض أصحاب الانتماء المزدوج، ثورة يناير، وللانقلاب على ثورة يناير، فرضية الانقلاب الأبيض، وهي فرضيةٌ مريحةٌ وسهلة، وفي الوقت ذاته، لا تغضب النظام العسكري الحاكم، حيث يذهب نفر من هؤلاء إلى أنها كانت ثورةً شعبية احتضنها الجيش، وفرض معها شراكة، لولاها ما تخلص الطرفان معًا، الجيش والشعب، من حسني مبارك. أما غير المفهوم، وغير المنطقي بالمرّة، فهو تسرّب هذا الوهم (الانقلاب الأبيض) لبعض من عاشوا ملحمة الثورة يومًا بيوم، بل لحظة بلحظة، وشاهدوها تولد وتتحرّك وتنمو وتشتد وتواجه العواصف ولا تستسلم أو تتراجع، ولا تنخدع بالخطب العاطفية، ولا بالمخدّرات الإعلامية، والمواءمات السياسية، الأميركية والمحلية، حتى نجحت في إسقاط حسني مبارك.
كان الجميع هناك، صامدين في الميادين وكأنهم في ساحات معركة مصير، يشيعون الشهداء ويسعفون الجرحى، ثم يعودون إلى مواصلة الكفاح السلمي، متعفّفين عن كل ما يعرض عليهم من صفقات وحلول وسط، مطالبين بالحد الأقصى: سقوط النظام. وبالتالي، لا معنى للضعف والتسليم بصحة رواية الانقلاب الأبيض، سوى البحث عن الهروب من استحقاقات المستقبل، عن طريق التنكّر لحقائق الماضي.
هذا الماضي، بحقائقه الناصعة، تجد ما يضيئ جوانب مهمة منه في مذكرات باراك أوباما، المنشورة حديثًا تحت عنوان "الأرض الموعودة"، والتي لاقت إقبالًا جيدًا من الباحثين والمترجمين العرب، منهم هاني الكنيسي الذي يقدّم عرضًا محايدًا لها على صفحته في موقع فيسبوك. في الصفحات التي يقدّم فيها أوباما روايته عن ثورة يناير وسقوط حسني مبارك، ثمّة رد اعتبار لقوة الجماهير، بوصفها صانعة الحدث في مصر، وصاحبة إنجاز التغيير، إذ يقول بالحرف الواحد: "كنت واقعيا في تفكيري حين افترضت أنني سأمضي ما تبقى لي من زمن في البيت الأبيض وأنا أتعامل مع مبارك (رئيسا لمصر) لولا عناد ومثابرة الشباب (الغاضب) في ميدان التحرير. كنت سأواصل في التعامل معه كرئيس –برغم كل ما يمثله – تماما مثلما واصلت في التعاطي مع باقي المنظومة الكبرى "الفاسدة والسلطوية المتعفنة" -كما وصفها مستشاري بن (رودس)- والتي تهيمن على مقدرات الحياة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا".
يتحدّث أوباما، في مواضع أخرى، عن يقين حسني مبارك الذي لا يتزعزع بأن الحراك الجماهيري الموجود في الشارع ليس ثورة، وليس قادرًا على إزاحته، وأنه سوف يمرّ وينتهي وكأن شيئًا لم يكن، أو كما قال له حرفيًا في واحدة من المكالمات بينهما "أنا أعرف شعبي جيدا.. إنهم عاطفيون .. وسأتحدث إليك بعد برهة، لأثبت لك سيد أوباما أنني كنت على حق".
الثابت أيضًا أنه منذ الخامس والعشرين من يناير (2011) وحتى موقعة الجمل في الثاني من فبراير، كان المجلس العسكري طرفًا ضد الثورة، وحريصًا على بقاء مبارك، ولم يتغير موقفه إلا لسببين تطرق إليهما أوباما: بسالة الثوار وصمودهم من جهة، والتواصل اليومي لأعضاء من إدارته مع قيادات المجلس العسكري المصري، لتحذيرهم "بمنتهى الوضوح من أن أي تدخل من المؤسسة العسكرية لقمع المتظاهرين سيكون له عواقب وخيمة على مستقبل العلاقات المصرية الأميركية".
سقط مبارك، ورحل غير مأسوفٍ عليه، وثبت أن الجماهير كانت على حق، وبقيت أوهام "الانقلاب الأبيض" معشّشة في رؤوس بعض المحسوبين على المعارضة .. وهذا موضوع يستحق التوقف عنده في مقال لاحق.
أضف تعليقك