بقلم: وائل قنديل
عبد الفتاح السيسي بصدد إنتاج جزء ثانٍ من مسلسل "الاختيار"، يقدم فيه روايته عن "رابعة العدوية" أبشع مذابح القرن .. ما المفاجأة في ذلك؟ وهل كنت تتوقع غير ذلك من شخصٍ مثله، احترف تزوير التاريخ والجغرافيا؟
قد تكون المفاجأة هنا أن يتصنع أحد أنه متفاجئ أو مندهش، سواء من موضوع المسلسل، أو من الفنانين المشاركين فيه، وخصوصًا الفنان أحمد مكّي، المشلوح دراميًا منذ قدّم عمله التلفزيوني الأشهر، من ستة أجزاء "الكبير قوي".
في ذلك المسلسل الكوميدي مشهدان لافتان، الأول يسخر من حالة اللوثة الوطنية الزائفة، الناتجة عن تعاطي مخدرات سياسية وغنائية شديدة التأثير، أخطرها الأغنية المنتجة إماراتيًا "بشرة خير"، والتي ما أن يتم حقن الناس بها حتى يستحيلون كائناتٍ أخرى غريبة، ترقص في هستيريا.
في المسلسل مشهد تُصاب فيه عائلة الكبير بهذا النوع من الهستيريا، حين تتناول بالخطأ شحنة من "التورتة بمخدّر الحشيش"، وصلت في طرد من هولندا، هدية لبطل العمل "الكبير"، فوقعت في أيدي أهل القرية، فتحوّلوا إلى أشباح بشر مصابين بما يشبه المسّ، فيرقصون على أنغام "بشرة خير" حتى السقوط إعياء.
وفي مشهد آخر، يسخر العمدة "الكبير" من اختراع العلاج بالكفتة، أو تلك الفضيحة العلمية الطبية التي ارتكبها الجنرال، وسخر منها العالم كله، ولا يزال.
ما إن تم الإعلان عن مشاركة أحمد مكي في مسلسلٍ من إنتاج مخابرات السيسي، يقدّم رواية القتلة للمقتلة، باعتبارها بطولة وطنية، حتى اشتعل الفضاء الإلكتروني والتلفزيوني بحرائق الإدانة واستنزال اللعنات على ذلك الممثل "عميل العسكر" و"شارب دم الشهداء"، وعديد من الألقاب التي يستحقها أي فنانٍ يقرّر أن يتحوّل، في غمضة عين، إلى ترسٍ في آلةٍ فاشيةٍ تزوّر التاريخ، وتفرض روايتها الكاذبة بقوة البطش.
غير أنه في ظني أن المعركة هنا ليست مع أحمد مكي، أو أي فنان آخر، ذلك أن من السذاجة أن يتصوّر أحد أن ممثلًا يمكن أن يرفض أو يعتذر أو ينسحب من عمل فني ينتجه نظام هو مزيج من النازية والفاشية، ويكون آمنا على حياته، أو يبقى على قيد الحرية.
المعركة، كان من الواجب وطنيًا وأخلاقيًا ألا تتوقف لحظة واحدة على كل الجبهات طوال ثماني سنوات، هي عمر الجرح، مع هذه السلطة التي أسّست ملكها، وأثثت عرشها من عظام وجماجم ودماء الآلاف من شهداء المذبحة التي ارتكبتها، وشاهدها العالم كله تلفزيونيًا.
في عالم كرة القدم، يقولون إن من يضيّع الفرص يقبل أهدافًا في مرماه، وهذا ما حصل مع أصحاب الدم، دم "رابعة"، حين أهدروا ثمانية أعوام من دون أن يتمكّنوا من فرض ملف الجريمة على القضاء الأممي والدولي، ليطاردوا به النظام الذي ارتكبها حتى الإدانة والعقاب. وبما أن ذلك لم يتحقق، فما الذي يمنع نظام السيسي من أن يبادر هو بالهجوم، ويفرض روايته لما جرى، ويظهر نفسه في ثوب الضحية، ويحوّل الجريمة إلى عمل وطني؟
ثمان سنوات عبرت ومذبحة رابعة ليست سوى مناسبة كربلائية تنعقد يومًا واحدًا في السنة وتنفض، ثم تودع في أدراج النسيان، وتستخرج في العام الذي يليه.
يدهشك في الأمر أن جيشًا من القضاة والقانونيين والوزراء ممن نجوا من الموت في "رابعة"، وخرجوا من مصر، ومع ذلك لم تتحوّل جريمة رابعة إلى ملف يطارد منظمات المجتمع الدولي ومؤسساته، إلى أن تصبح قضيةً يخضع المتهمون فيها للمحاكمة والإدانة.
كما أنك لن تعدم وجود ممثلين وفنانين وكتاب دراما خرجوا من البلاد بعد المذبحة، لكن أحدًا لم يفكر في إنتاج عمل واحد، في حدود الإمكانات المتاحة، يجسّد مذبحة القرن التي فاقت في بشاعتها هولوكوست النازي الذي حلبت به إسرائيل العالم كله، ولا تزال، حتى صار إنكار المحرقة جريمةً يعاقب عليها القانون.
الواقع يقول إن السيسي قتل الناس في ميدان رابعة العدوية، ثم أنشأ صندوق "تحيا مصر" يستحلب فيه أموال المصريين للإنفاق على قصوره ومسلسلاته، ويكافئ به القتلة، لكن أحدًا من أولياء دم الشهداء والمتحدثين باسمهم لم يفكر في تكوين "صندوق رابعة" في الخارج للإنفاق على الجوانب القانونية التي تجعل من المذبحة قضية أمام الجنائية الدولية، أو لتمويل إنتاج أعمال درامية توثق الجريمة، وتخاطب بها الضمير الإنساني.
هذه لم تكن مهمة مستحيلة، فهناك عشرات الآلاف من المصريين بالخارج، لو ساهم كل فرد منهم بدولار واحد أسبوعيًا على مدار ثماني سنوات لكان هناك ما يكفي للدفاع عن حقوق الشهداء.
الواقع يقول أيضًا إن لديك كل تفاصيل المذبحة موثقة بالصورة وبالصوت وبشهادات الناجين وعائلات الشهداء والأطباء والمسعفين... أنت لديك وقائع التاريخ كلها، فماذا فعلت بها؟ استخدمتها تلفزيونيا في مواسم التذكّر، واستثمرتها في تبرير رحيلك والحصول على مساحة حياة في الغربة، حصولًا على إقامة أو جنسية، أو لجوء سياسي أو إنساني؟
حسنًا، معلوم أنك تركت وراءك جحيمًا مستعرًا وارتحلت، وبيديك سلاح قانوني هو الأقوى: وثيقة إدانة لا تقبل الشك للنظام الذي قتل أخوتك وألقى بك على شواطئ الغربة... من المهم أن تراجع نفسك وتسائلها بعد ثماني سنوات: ماذا فعلت بهذا السلاح؟
ثمة أسئلة أخرى: لماذا لا يزال محمد البرادعي على صمته منذ استقال من منصبه، نائبًا لرئيس سلطة الانقلاب، مع غروب شمس يوم المذبحة؟. كل ما قاله منذ خروجه من مصر، بلا رجعة، عبارات فضفاضة، بينما كان المنتظر من شخص مثله شهادة كاملة أمام العالم عما جرى، والذي اكتفى بالقول عنه "كما تعلمون فقد كنت أرى أن هناك بدائل سلمية لفض هذا الاشتباك المجتمعي، وكانت هناك حلول مطروحة ومقبولة لبدايات تقودنا إلى التوافق الوطني. ومن واقع التجارب المماثلة، فإن المصالحة ستأتي في النهاية، ولكن بعد أن تكبدنا ثمناً غالياً كان من الممكن تجنّبه".
إننا جميعًا مقصّرون ومهملون بحق شهداء، ولا أظن أننا بهذه الوضعية مؤهلون لفعل شيء ينقذ عشرات الآلاف من السجناء والمعتقلين يواجهون ظروفًا وحشية في زنازين نظامٍ يجيد تمثيل دور المدافع عن الإنسانية والحق في الحياة.
أخشى أن نقول الكلام ذاته بعد سنة تاسعة، وعاشرة، ولا شيء نفعله، فيما النظام يواصل إنتاج أكاذيبه في علب درامية فاخرة.
أضف تعليقك