بقلم: عبدالله الأشعل
حقائق لا يماري فيها أحد؛ أولها أن الحكام هم أضعف عناصر الأمة في اللياقة والتعليم وخلافه، وثانيها أن شرعية هؤلاء الحكام ليست من الشعوب، وثالثها أن الحكام يحكمون بأمزجتهم وليس وفق معايير، ويقربون منهم من يعنيهم على توجيه البلاد وثرواتها لمصالحهم، ورابعها أنهم استخدموا الإعلام أداة لتغييب عقول الشعوب والأمن لقهرهم، وكلها موارد الشعوب تستخدم لإبادتهم وإفقارهم وقهرهم والتمييز بينهم وتفتيت المجتمع، وخامسها أن صراعات الحكام شخصية أو بتعليمات من واشنطن، فرضاؤهم وسخطهم بتعليمات ففقدوا إنسانيتهم وأفقدوا شعوبهم مقومات الإنسان.
هذه الحقائق بنسب مختلفة، ولكن هذه الحقائق طوال عقود من انفصام الشخصية بين الحقيقة والخداع وتجميل الصورة والقهر والإفقار وإغفال الحقوق والأخلاقيات؛ أورثت الشعوب أمراضا نفسية خطيرة، فأصيبت بنفس الأمراض النفسية، خاصة وأن من دواعي سرور الحاكم هو تعذيب الناس وإرهاقهم وانتزاع الإنسانية منهم، فلا تستجدى هذه الإنسانية والرحمة المفقودة إلا عندما يتربع على منصات الإعلام مشايخ السلطان بسحنتهم القبيحة لكي يحثوا الناس على أوجه الخير، ويستدعون الآيات والأحاديث دون حياء لكي يقوم الناس بالتبرع بالقليل المتبقي لديهم لسد عجز الحكومة، وهي خدمات إجبارية مقابل الضرائب، ولكن الذي يراعي الحاكم في الدعوة إلى الله يتولاه الله حسبما قرأ هو في القرآن الكريم.
ولكن هذا المقال مخصص لمعالجة أثر خطير من آثار هذه الحقائق، وهو اضطراب المؤشر العربي عند المواطن. فقد استقر المؤشر العربي عند عدد من الحقائق أيضا؛ أولها أن الأمة العربية واحدة، وأن أي عدوان على أي عضو فيها هو عدوان على الأمة كلها، وثانيها أن العروبة جسد ومنزل، والإسلام والمسيحية واليهودية روح، فلا ينفرد بالعروبة أحد المنتمين إلى هذه الشرائع، علما بأن الإسلام ينتظم كافة الأنبياء والرسل وجوهر توحيد الله سبحانه. وكان محمد صلى الله عليه السلام هو خاتم مسيرة الأنبياء والرسل، وهو اللبنة التي أكملت وزينت بناء العقيدة. فلا يصح أن يحتكر المسلمون من أتباع رسول الكريم العروبة، كما أن الرسول لا جنسية له وإن كان ينحدر من العرب، وإنما يحسب في درجة النبوة.
وثالثها أن العروبة ثقافة وليست عرقا، وأن إنكار عروبة مصر كما حدث أيام السادات والاعتصام بالفرعونية أو الفيفية أو الآشورية هو تشويه للحقائق وتزييف للتاريخ لأن كل هذه الهويات سابقة على العروبة، والبلد العربي لا ينكر طبقات التاريخ، فالبلد له تاريخ ومراحل ولا يمكن الرجوع إلى الوراء وإنكار العروبة بمناسبة الميل لإسرائيل.
ورابعها هو أن إسرائيل سرطان يهاجم الجسد العربي ويطمس هويته العربية الإسلامية والمسيحيية، وإن فلسطين جزء أساسي في الجسد العربي ولا يمكن تركها ضحية للسرطان، وهي في الواقع تحتمي بالعروبة كأصل عام. ومن السخف تفسير مصر بالذات كأي قُطر آخر، فقد كانت تلك دعوة لدحر العروبة بمناسبة كامب ديفيد. ذلك أن خطورتها أكبر من خلخلة مؤقتة في دور مصر العربي، وإنما في إقناع الشعب المصري بأنه لا علاقة له بالعروبة وهذا أحدث خللا في المؤشر المصري.
وسادس هذه الحقائق أن السادات والمطبعين الجدد قالوا إن اتفاقية السلام مع مصر تعني السماح بالتطبيع مع العدو التاريخي نكاية في جمال عبد الناصر، فالذي حركه هي الأضواء الخادعة للمجد في أحضان العدو ومحو الكابوس الذي تحدث عنه د. مراد غالب في مذكراته، وهو عبد الناصر بالنسبة للسادات. وهكذا أحدث خللا خطيرا مركبا، فهو أنكر العروبة، تبنى الصهيونية، وزعم أن صفقته مع إسرائيل تجلب السلام بمعنى منحرف، وهو وقف الحرب. ولماذا تحارب إسرائيل طرفا راكعا يلبي مطالبها قبل أن تنطق بها؟
وكان مبارك يفخر بأنه في فترة حكمه لم تقع حرب مع إسرائيل، وهو يعلم يقينا أن الحرب شيء والصراع شيء آخر، ويعلم يقينا كيف أن اليهود اعتبروه رسميا كنزهم الاستراتيجي، ومع ذلك وجد من السوقة من يأسفون لما حاق به، ولولا أنه عسكرى لنُكل به. وكان ذلك درساً له لكنه رحل دون أن يدرك مغزاه، وتمنيت أن يدفن مع محبيه لأن أرض مصر طاهرة لا تحتضن إلا من أخلص لها وعادى عدوها التاريخي.
ويترتب على هذه الحقائق المشكلة للبوصلة العربية ما يلي:
1- أن كل ما يضر إسرائيل يسعد العربي.
2- أن كل ما يصيب دولة عربية كأنه أصاب كل العرب.
3- أن القضايا العربية الثنائية هي خلافات داخل الأسرة العربية، وأن القضية التي يجمع عليها العرب مع الخارج وفي داخل الأسرة هي القضية الفلسطينية، وعندما قرر العرب أن السلام مع إسرائيل خيار استراتيجي لم يكن معناه استبعاد الحرب العربية ضد إسرائيل لأول مرة في تاريخ العرب، لأن إسرائيل هي التي كانت تعتدي على الأطراف العربية. فلم تحدث حرب واحدة مع اسرائيل، وحتى أكتوبر كانت عملية عسكرية ضد القوات الإسرائيلية المحتلة، ومع ذلك اعتبرتها إسرائيل عدوانا عليها وانتهاكا من مصر لحظر الحرب في ميثاق الأمم المتحدة، كما وضعت عدوانها على سيناء بأنه دفاع شرعي استباقي ضد استعداد مصري عدواني للهجوم عليها، فزورت الميثاق، ولحسن الحظ رفض الفقه الدولي الإسهام الإسرائيلي في هذا الباب.
4- الدعم والتعاطف غير المحدود مع الطرف الفلسطيني الضحية؛ الذي تنازل مقابل سلام وهمي فقبل أسطورة قرار التقسيم بينما الإسرائيليون عزموا منذ البداية على خديعة العالم حتى يحصلوا على كل فلسطين. وكان هذا التعاطف ليس منّة على فلسطين، ولكن عندما كسر السادات هذا المؤشر بدأت الاتهامات تنهال على الفلسطينيين عندما عارضوا اختطاف مصر من عروبتها بكامب ديفيد. وبلغت حملة شيطنة الفلسطينيين وتجميل المحتلين حدا مقززا، وللأسف انطلى ذلك على بعض حكام الخليج خاصة مع الدعم الأمريكي لنظمهم مقابل الترحيب بإسرائيل وإعانة المحتلين على التنكيل بأهل فلسطين. وهذه ظاهرة جذرها في مصر وتخمرت عبر عقود.
وهكذا اضطرب المؤشر العربي، وأبرز تجليات هذا الاضطراب:
الأول، عندما سقط تمثال صدام حسين هلل البعض ورحب الاحتلال الأمريكي البريطاني ليسحق العراق بمعاونة إسرائيل، ثم عندما ظهرت ملهاة سجن أبو غريب وجرت مجندة أمريكية حمقاء أحد المسجونين كما تجر الكلاب؛ فرح بعض العرب خاصة من الشيعة العرب بهذا المنظر.
نعم كان صدام دكتاتورا وكان قاتلا وأصاب الجميع بشروره، لكن المنظر كان مخزيا، تماما كمشهد صدام وهو يتقدم إلى المشنقة وهو يحمل كتاب الله. قال البعض إنه تلقى ما يستحق، ولو كان عمل بما في كتاب الله الذي حمله إلى المشنقة لنجا ونجا العراق، وقال غيرهم إنه شهيد وبطل، وقال ثالث إنه يستحق الإعدام ولكن ليس على يد الأمريكان، وقال آخرون إذا كان لا بد من قتله فليقتله الشعب العراقي ولكن ليس يوم عيد الأضحى.
واتصالا بمأساة العراق لم يدرك البعض أن تحرير الكويت من العراق كان في الحقيقة ينطوي على إبادة الجيش العراقي الذي كان ذخر الأمة، ولكن صدام حوله لإرهاب الكويت، وكان يجب أن يحميها بدلا من استذلالها. كانت تلك مشاهد صادمة وتعكس اضطراب البوصلة العربية.
الثاني: شاهدت البعض من خصوم بشار الأسد يفرحون بالغارات الإسرائيلية على دمشق، كما شاهدت بعض الخليج وهو لا يخفي شماتته.
الثالث: شاهدت اقتحام قطعان المستوطنين للمسجد الأقصى والتنكيل بالمرابطين، اختلفت ردود الفعل العربية مما يقطع باضطراب البوصلة العربية.
الرابع: عندما وقعت مأساة 1967 سجد بعض أعضاء التيارات الإسلامية، وقالوا إنها عقاب على بطش عبد الناصر، وأن كل ظالم يسلط الله عليه من يظلمه، كما قالوا إن 1973 نصر من الله للمكبرين، ويعني انتصار الإسلام على عروبة العهد الناصري.
ولم يدرك كل هؤلاء أن مصر وجيشها هما الضحية، وأن المصيبة لحقت بأجيال المصريين.
الخامس: لا يزال حتى الآن بعض المصريين ضد الحكومة يتمنون أن يهزم الفريق القومي حتى لا يضيف الإعلام فوزه إلى مكاسب الحكومة التي لا يرونها، وهذا له ملابسات تاريخية بسبب الصراع على السلطة في مصر منذ عام 1952، وتفتت المجتمع المصري وغياب الراية التي تجمع الجميع، وغفلوا عن أن مصر هي الباقية وأن فريقها القومي مصري لا يتبع الحاكم. لكن السوابق والتفاهة في معالجة مثل هذه الأمور تجب معالجتها بهدوء.
لقد كانت البقرة في قريتنا التي تجود على أهل القرية تتمتع برعاية الجميع؛ ودعواتهم لها بالسلامة ما دام يعم خيرها الجميع.
أضف تعليقك