بقلم.. عامر شماخ
لم يعجز المستبدون عن تغييب الذاكرة الجمعية لشعوبهم إذ اخترعوا وظيفة «مزوِّر تاريخ»، مهمته بالأساس هى قلب الحقائق وتزييف الواقع، حتى إذا تتالت الأجيال وَهَمَ الناسُ فى اللص الشرف، وفى الوضيع العظمة، وفى ذلك المستبد الوطنية والبطولة.
و«المزوِّر» شخص لا ينقصه الذكاء، ولا الخيال الخصب، لكن ينقصه الضمير، والأهلية فهو منغمس فى الحقارة وامتهان الذات وقد رضى بتلك المهنة المذِّلة وبذل جهده فى مساندة الطاغية ودعم باطله.. إنه يرفع المستبد إلى درجة النبى، ويخلِّيه من الخطأ والنسيان، ويلبس القزم لباس العظمة، والفاسق لباس العترة، ويخلق من التافه أسطورة، وقد سمعنا أحدهم مؤخرًا يقسم بأن هناك صلة قرابة بين أحد هؤلاء المضطربين والملك الفرعونى «جدقرع»!
و«المزوِّر» أو «المزيف» شخص جرىء، يجيد الدجل كالذى هيأ له هذه الوظيفة، لديه ثبات انفعالى بدرجة كبيرة حتى ينخدع به العامى، وقد تدرب على تسويق الوهم، والتلفيق وأجاد العيش فى جو المتناقضات فلا يحدث له أدنى إزعاج إذا واجهه أحدهم بتلك التناقضات، بل العجيب أنه يبالغ ويسرف فى التزوير إلى درجة السطحية والابتذال ورغم ذلك يبدو بمظهر صاحب الحق متهمًا خصمه بما فيه من داء.
ولولا المستبد ما طفح أولئك المزورون على السطح ونالوا حظهم من الوجاهة والشهرة، فالمستبدون يهيئون لهم الساحة، ويصنعون منهم النجوم، ويقنعون العامة بتفردهم ومجدهم؛ فهذا «الأديب الكبير»، وذاك «الكاتب الفذّ»، وفى نيتهم ألا يشك فيهم العامة أو يظنوا فيهم سوءًا، فمن هؤلاء العوام من يترحم على من شوه دينه وعاش حربًا على هدى نبيه ﷺ، وقد غرتهم أوهامه إذ حسَّن لهم القبيح، وزين لهم الباطل، وبدل الآيات تبديلًا.
إذًا تجد «المزور» حين تجد «المستبد»، فإن خلا البلد من الطاغية انقرضت وظيفة المزوِّر. أما وسائل التزوير فهى كثيرة، وهى نفسها الوسائل التى أممها الطاغية، فتجد المزورين يمرحون فى وسائل إعلامه، وفى السينما، وفى الأعمال الفنية والدرامية، وفى المناهج التربوية، وفى المدارس، حتى فى خطب المساجد.. تجدهم فى كل هذه الجهات يشوِّهون الخصم، ويدغدغون المشاعر، مستغلين نسبة الجهل الفاشية وخلوَّ الساحة قسرًا من رأى يعارض رأيهم، فى مقابل إظهار أسيادهم فى صورة الوطنيين الشجعان.. يفعلون كل هذا دون أية محاذير؛ إذ الغاية عندهم تبرر الوسيلة، ودون التقيد بأى قيمة أخلاقية أو لائحة مهنية، فهم -من ثَمَّ- لا يحفظون غيبة ولا يعصمون دمًا ولا يراعون عهدًا ولا ذمة.
وإذا كان «المزور» يحتمى بالسلطة فإنه يفجر فى كذبه آمنًا فتك الجماهير به، وهذه الحالة من الاستقواء تدفعه إلى المبالغة فى تزييف أحداث الساعة المشهودة وليس أحداث مضت لم يعاصرها الكثيرون، وتلك من ضمن صفات المزوِّر: التبجح؛ وانظر إن شئت إلى حكمهم و«تأريخهم» لـ: الربيع العربى، ثورة يناير، الثورة المضادة، الإخوان، مرسى، الانقلاب، القضية الفلسطينية إلخ. سوف تجد قلبًا للحقائق، ودعائية فجة، وحسابات سياسية تجافى المنطق، وكيف لا يفعلون ذلك ومن سبقوهم فى «الكار» قد حولوا «الوكسة» إلى «نكسة» و«الفاشل المستبد» إلى «ملهم مغوار»!
عندما تفيق الجماهير وتبدأ فى الوعى، تفضح سر هؤلاء المزورين، فتهيل التراب على الأساطير التى صنعوها، ويتحول الإعجاب الشعبى بهم وتأييد مشاريعهم الوهمية إلى نقمة وكراهية حادة.. ويبدأ المهتمون فى كشف باقى الإرث المزيف المسموم الذى أُشربته العقول والقلوب فيما مضى وقد ترك آثارًا واضحة فى الوعى الجمعى للأمة. ومن حسن حظنا أن ثورتنا المجيدة كانت لحظة فارقة فى الفرز والتجنيب وفى كشف هذا المستور، قديمه وحديثه.. ومن يومها نرى كل يوم إشارة وإشارتين لتزييف، قديم وجديد، وضحاياها الجدد من الذين غشَّهم هذا المزوِّر أو ذاك.
أضف تعليقك