بقلم.. وائل قنديل
هذه ليست، فقط، سنة جديدة تبدأ، بل هي قبل ذلك خاتمة عشرية هي الأكثر أملًا وألمًا في الوقت ذاته، حضر فيها المواطن العربي طرفًا أصيلًا في معادلات تغيير الواقع وصياغة المستقبل.
سلم العام 2010 مفاتيح الأمل إلى العام الجديد 2011، تلك المفاتيح التي عثر عليها في تونس، فصنع منها عدة نسخ، وضع واحدة في يد مصر، وأُخُر في اليمن وليبيا وسورية والبحرين، لتبدأ الأيادي في طرق أبواب المسقبل، في أوركسترا متناغم، أذهل الدنيا كلها، وبدا وهلة أن العالم على موعد مع إصدار النسخة العربية من قاموس التغيير السلمي. غير أنه لم تمر سنة واحدة، حتى كانت كل الآمال تستحيل آلامًا، وأوجاعًا ودماء لا تزال تنزف بغزارة، وتصر على أن تلون أبواب 2021 في ظل إصرار السلطوية العربية على الاستمرار في سحق المواطن، ليبقى، فقط، المستهلك، الزبون، المتلقي، طوال الوقت، غير مسموح له بالمشاركة بإنتاج الأفكار أو الرؤى الخاصة برسم ملامح مستقبله ومستقبل المجتمع.
أسوأ ما في عشرية الأحلام والدماء أنها خدشت العلاقة بين الجيوش والشعوب، وكسرت ذلك البرواز الأنيق لصورة العسكرية في عيون المواطن، وفرضت شكلًا جديدًا وسيئًا للعلاقة، حتى كان شعار "يسقط حكم العسكر" هو الهتاف الأبرز طوال عشر سنوات، بدأت في 2011.
على المستوى الشخصي، لم أكن أتخيّل أن تتغير صورة المؤسسة العسكرية في أقل من شهور، وربما أسابيع، من كونها الأكثر ابتعادًا عن ابتذالات السياسة واختلالات البيزنس، إلى حالةٍ جديدةٍ بدت معها في حالة شبق سياسي واقتصادي، معًا، هابطةً من علياء الجندية، بمفهومها البسيط النقي، إلى حضيض الاحتكار السياسي والاقتصادي.
كتبت في اليوم الأول من العام 2011، وقبل ثورة يناير بثلاثة أسابيع وأيام، أحيي احترام المؤسسة العسكرية على انضباطها واحترامها وابتعادها عن مستنقعات الفساد السياسي والاقتصادي، حين استجابت لحملةٍ شعبية، انطلقت من عندي، لعلاج وتكريم البطل الشعبي جمعة الشوان، صاحب الملحمة الشهيرة في تاريخ المخابرات المصرية قبل حرب أكتوبر 1973، وكما شاهدناها في عمل درامي مثير تحفظ أحداثه أجيال.
كان الشوان يئن من آلام المرض، من دون أن يسعفه أحد، لا من رجال الأعمال، ولا من الحكومة، فكانت دعوتي إلى حملة اكتتاب لمعالجة البطل الشعبي على نفقة الشعب، وهي الحملة التي التحقت بها القوات المسلحة، وقرّرت تحمل كل نفقات علاجه. كتبت وقتها" تظل المؤسسة العسكرية هى الجهة الأكثر مصرية والأعمق إحساسا برموز الوطنية المصرية، وفى طليعة الصفوف منهم البطل جمعة الشوان.
وبينما غابت كافة أجهزة الدولة عن أزمة الشوان، حضرت المؤسسة العسكرية، كما تحضر دائما فى مناسبات عديدة تكون الأجهزة الأخرى المعنية فيها غارقة فى مستنقعات التخبط والإهمال والنسيان والتجاهل. وفى جملة واحدة تظل هذه المؤسسة العريقة هى الحصن والحضن والمأوى عندما يضيع الآخرون فى متاهات البيروقراطية والانشغال بتوافه الأمور".
هكذا كنت، وكثيرون غيري، ننظر إلى المؤسسة العسكرية، وفي الأذهان دومًا تضحيات الشهداء والمصابين في حروب مصر المتعاقبة، حتى جاء العام 2011 وكانت الثورة، التي زعم المجلس العسكري وصلًا بها، معلنًا أنه غير طامع في شيء، وأنه والشعب يد واحدة في خدمة الثورة.
أسابيع فقط مضت بعد خلع حسني مبارك، وتولي المجلس العسكري الحكم، بصفة مؤقتة، حتى كانت دماء الشعب والثورة تسيل على يد هذا المجلس الذي ظهر سريعًا جدًا أن أكثر قربًا من الثورة المضادّة، ثم صار هو نفسه الثورة المضادة فيما بعد.
عشر سنوات انتهت أمس، تغيرت فيها الصورة والوظيفة والأدوار المعروفة للجيوش العربية، من ردع الأعداء إلى تكسير عظام الشعوب الساعية إلى التغيير، لتصبح الحالة الأبشع والأكثر مدعاة للحزن هي الحالة السورية، مع تحوّل جيش بشار الأسد من الاستعداد للحرب على العدو الصهيوني من أجل تحرير الأرض السورية المحتلة، إلى خوض الحرب فعليًا ضد الشعب السوري الحالم بالتغيير والثورة.
وفي ليبيا، بدأت الحكاية باختراع مليشيا، وفروا لها كل أشكال الدعم المالي والعسكري وأطلقوها تحارب ما تبقى من ملامح للثورة الليبية، لينتهي الأمر بأن تورّطت العسكرية العربية التقليدية في إنتاج عسكرياتٍ مزيفة، على شاكلة التجربة الحفترية في ليبيا .. ثم كانت تراجيديا الثورة السودانية في العام الماضي، ليصعد تحالف العسكريين والمليشياويين إلى السلطة.
أما في مصر، فقد كان الانقلاب، ليس على الحكم المدني والتجربة الديمقراطية الوليدة فقط، وإنما على قيم العسكرية ذاتها، بعد الأيْمان المغلظة والوعود الرقيقة بأن المؤسّسة العسكرية لن تتولى السلطة، ولن تفكّر في الهيمنة على الحكم، لينتهي الأمر بأنها استحوذت على كل شيء، من السياسة والاقتصاد، وحتى الدراما والإعلام، وصارت ترعى عسكرة السلطة في الدول الشقيقة.
في المجمل، شهدت العشرية الأخيرة (2011 - 2021) نمطًا أكثر فجاجةً من الأنظمة العسكرية، بحيث انتقلنا من نموذج الحكم العسكري المستتر تحت قشرة مدنية صلبة، كما كان مع حسني مبارك وعمر البشير ، إلى حالة عسكرية صارمة وصحيحة لا تقبل بأي ملامح مدنية حقيقية إلى جوارها.
مع بداية عام جديد، وافتتاح عشريةٍ أخرى، نتمنّى أن تستعيد العسكرية العربية ذاتها، وتصحّح المعنى المختل للجيوش، وتعود مؤسسات عسكرية وطنية، لا شركات قابضة على مقاليد كل شيء .. جيوش مبرّأة من أمراض العروش.
أضف تعليقك