بقلم.. عامر شماخ
قليلةٌ هى الأحاديث الواردة عن النبى ﷺ ويتحدث فيها عن نفسه، ورغم هذه الندرة بجانب ما روى عنه ﷺ قولًا وفعلًا وتقريرًا ويمثل الجناح الثانى من الوحى -فإن هذه الأحاديث التى جاء بعضها على سبيل استدعاء الذكريات تترجم شخصية هذا النبى الخاتم ﷺ وتظهر قدره وأوجه عظمته.
ووددتُ لو خرج رجلٌ لهذه المهمة، يحصى أمثال هذه الأحاديث ويدققها، ويستخرج منها العظات ما تنتفع به الأمة، ولتعلم أن قائدها ﷺ له من الذكريات ما يليق بموقعه المعظَّم فى سلسلة الرسل.
يتحدث ﷺ عن مظاهر حفظ الله له قبل النبوة فيقول: "ما هممتُ بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمُّون به إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمنى الله منهما، قلت ليلة لفتى كان معى من قريش بأعلى مكة فى أغنام أهله يرعاها: أبصرْ إلى غنمى حتى أسمر (السَمَر: الحديث ليلاً) هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجتُ، فجئتُ أدنى دار من دور مكة، سمعت غناء وضرب دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلان تزوج فلانة، لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوتُ بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتنى عينى، فما أيقظنى إلا حرُّ الشمس فرجعتُ فقال: ما فعلت؟ فأخبرته. ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ففعل، فخرجتُ، فسمعتُ مثل ذلك، فقيل لى مثل ما قيل لى، فلهوتُ بما سمعت حتى غلبتنى عينى، فما أيقظنى إلا مسُّ الشمس، ثم رجعت إلى صاحبى فقال: فما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئًا. قال ﷺ: فوالله ما هممتُ بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمنى الله بنبوته". ويؤكد ذلك فى حديث آخر بقوله ﷺ: "لما نشأتُ بُغِّضتْ لى الأوثان، وبُغِّضَ إلىَّ الشِعر، ولم أهمُّ بشىء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين؛ فعصمنى الله منهما، ثم لم أعد".
ولا ينسى ﷺ حدثًا مهمًّا وقع فى شبابه وفيه النصفة والعدل للإنسان بإطلاق؛ مما جاءت به رسالته من بعدُ، وهو "حلف الفضول"، الذى تعاقد فيه مجموعة من قبائل مكة، منها بنو هاشم وبنو عبد المطلب وبنو أسد وغيرهم، على حماية المظلومين ونصرتهم والتصدى للظالمين.. قال ﷺ: "شهدتُ فى دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لى به حُمر النعم، ولو دُعيت إليه فى الإسلام لأجبتُ".
وإذا كانت مذكرات الزعماء والمصلحين لا تخلو من افتخار بالذات وشعور بعظمة أدوارهم وفضلها على مجتمعاتهم؛ فقد أتى هذا الجانب فى ذكريات النبى ﷺ تعضيدًا لأمر اصطفاء الله له وأنه نبتة رعتها عين الخالق مذ كانت فى عالم الغيب، يقول ﷺ: "إن الله خلق الخلق، فجعلنى من خير فرقهم وخير الفريقين، ثم تخير القبائل، فجعلنى من خير قبيلة، ثم تخير البيوت، فجعلنى من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسًا وخيرهم بيتًا". ويقول: "أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة". ويقول: "إن مثلى ومثل الأنبياء من قبلى، كمثل رجل بنى بنيانًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وُضِعَتْ هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين".
ومثلما يواجه القادة المحن والبلاءات، ثم يحكونها فيما بعد على سبيل الذكرى أو التندر، فقد تعرض النبى لواقعة اعتبرها، على خلاف ما رأت زوجه عائشة، من أصعب الواقعات.. قالت –رضى الله عنها- للنبى ﷺ: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضتُ نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبنى إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأنا مهموم على وجهى، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسى، وإذا أنا بسحابة قد أظلتنى، فنظرتُ فإذا فيها جبريل –عليه السلام- فنادانى، فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئتَ فيهم. فنادانى ملكُ الجبال، فسلم علىَّ، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثنى ربى إليك لتأمرنى بأمرك، فما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين. فقال النبى ﷺ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا".
أضف تعليقك