بقلم.. عامر شماخ
تسعة وسبعون أخًا علَّقهم النظام العسكرى على المشانق منذ أن ابتُلينا به عام 2013، غير مئات آخرين صدرت عليهم أحكام الإعدام السياسية وينتظرون التنفيذ –نسأل الله أن يمزق الظالمين قبل أن يفعلوا بهم ما فعلوه بإخوتهم الشهداء-. وإذا كان المجرمون قد استحلوا دماء آلاف الأطهار فى الشوارع والميادين أو قتلوهم بالبطىء فى سجونهم فإن القتل بالإعدام يبقى الجريمة الأفظع؛ لما يقترن به من العمد والإصرار وما يستدعيه ذلك من تلفيق وتزوير وإفساد مؤسسات القضاء؛ ولما يتركه فى نفوس ذوى المغدورين من أسى ونقمة بعد سنوات من القلق والانتظار.
والأحرار المهمومون بالدين والوطن على رأيين إزاء هذه الجريمة التى لم تمر على المصريين من قبل، فطائفة أصابها اليأس فقعدت لم تدر أعلى الوادى من أدناه، ملقية باللوم على من دفعوا بهؤلاء إلى معركة ظنوها خاسرة، أما الطائفة الأخرى فقد رأت ذلك أمرًا معهودًا فى الدعوات، بل استبشرت خيرًا بما جرى، موقنة بأنه من فضل الله على الشهداء، ودليل قرب زوال المحنة ودنو الفرج والمنحة.
ومما لا شك فيه أن وقع هذه الأخبار شاقٌ على الجميع ولو لم يعرفوا هؤلاء الكرام من قبل؛ فإن القتل أمرٌ فظيع فما بالك إن كان المقتول قد قُتل لأنه يقول ربى الله؟ غير أن ما يصبِّر النفس ما جاءنا به الذكر الحكيم وسنة المعصوم –صلى الله عليه وسلم- وما ورثناه من السلف الكرام من فضل الشهادة وحتمية التضحية للدعوات، وأن تلك سنة الله فى عباده المؤمنين.
إن طائفة من المسلمين جزعت لما أصاب إخوانهم فى "أُحد" فعتبوا على النبى –صلى الله عليه وسلم- وقالوا (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا) [آل عمران: 154]، وهؤلاء -كما قال ابن كثير-: "اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة وأن الإسلام قد باد أهله، هذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمرٌ من الأمور الشنيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة"، وقد رد الله عليهم بقوله: (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: 154]، ومثل هذه الطائفة مثل من يلومون المقتول هذه الأيام، ويُحِلِّون -من ثم- القاتل من جريمته!
وأتعجب من بعض الشباب ممن كانوا يرددون بالأمس: "الله غايتنا والرسول قدوتنا والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا" ثم هم اليوم يتناسون ذلك بعدما تزعزعت قناعاتهم وانعدمت أو ضعفت همتهم واغتروا بما عليه الخصم من عدد وعدة –فإذا هم ينكرون الواقع ويجهلون ما يجرى حول العالم من اجتماع قوى الكفر على دين الله، ويعتبرون الشهادة اندفاعًا والثبات تهورًا وإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وأسألهم: وما قولكم فيمن يُذبَّحون كل يوم من مسلمى الروهينجا والصينيين والهنود ولم يتعاطوا السياسة وربما لم يسمع أحدهم عن الشهادة من قبل؟.
لقد حذرت آياتٌ عدة من هذا التردد والخور، وعابت على أقوام تخاذلهم، واختلاق مبررات القعود والامتناع عن بيع النفس والمال لله نظير النصر أو الشهادة، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت: 10]، ونقل القرآن حوارًا دار بين أشباه هذه الطائفة ونبى من أنبياء بنى إسرائيل جاء فيه: (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [البقرة: 246].
إن للدعوات ثمنًا باهظًا، ومشاق لا يستطيعها إلا المخلصون أقوياء الإيمان، وإنها لا تُنال بالأمانى وإنما تُنال ببذل الغالى والرخيص، يقول تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214]، ويقول: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 142].
أما ضعاف الإيمان المترفون فيزعجهم هذا الصراع، يريدونها هينة لينة لا نصب فيها ولا بذل، ذات مغانم وفىء؛ فوصف الله تعالى حالهم بقوله: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) [التوبة: 42]، وقد لقن "ابن القيم" –رحمه الله- هؤلاء العجزة درسًا فى الثبات قال: (يا مخنث العزم! أين أنت والطريق تَعِبَ فيه آدم، وناح فيه نوح، ورُمى فى النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث فى السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد فى المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد –صلى الله عليه وسلم-.).
لقد استعاذ عمر –رضى الله عنه- من جلد الفاجر وعجز الثقة كأنه يصور حالنا الآن؛ ففى الوقت الذى نرى فيه الشهداء –قبل إعدامهم- يوصون الناس بالثبات، ونرى ذويهم صابرين مرابطين- تصدمنا أقلام وألسنة حداد بأفكار ما عهدناها فى الدعاة الصادقين، وما دروا أن تلك الدماء مثلما هى لعنة على من سفكوها هى تمييز للخبيث من الطيب، وليزداد الذين آمنوا إيمانًا، وهى الماء الذى يروى شجرة الدعوة فتبقى على الدوام مزهرة مثمرة. ولو علموا أن لكل أجل كتابًا لحمدوا الله أن اتخذ إخوانهم على هذه الصيغة المشرفة من الموت. يقول "البشير الإبراهيمى": (كنت ذات مرة عند الملك فاروق فسمعتهم يتهامسون حول قتل حسن البنا، فذهبت إليه وقلت له: إن الملأ يأتمرون بك. قال: هذا أنت؟ يعنى أهذا تفكيرك؟ إن الله بالغ أمره قد جعل لكل شىء قدرًا).
أضف تعليقك