لا تزعجني عمليات الإلهاء التي تقوم بها السلطة العسكرية في مصر، فهذا من المعلوم من القوم بالضرورة، والإجماع منعقد على أن عبد الناصر في بداية انقلاب الجيش في سنة 1952، قام بعدة تفجيرات في القاهرة، ليحتمي الناس بـ"الحركة المباركة"، ويتوقف الداعون لعودة الحياة النيابة، وما يلزم ذلك من الدعوة لعودة الجيش لثكناته!
فالمزعج هو هذه الرعونة في الأداء، والبدائية في التنفيذ، والرداءة في المعالجة، وهذا من شأنه أن يبدد قيمة الكتابة الساخرة. فماذا يمكن أن يقول أي كاتب ساخر، وهو إزاء سلطة هي المنتجة للمادة الخام للفكاهة، بشكل يجعل أي كاتب في هذا المجال لا يمكن أن يجاريها في ذلك، وقد هبطت إلى مستوى المسخرة، وأفقدت هذا اللون من الفن معناه وأفرغته من مضمونه، وإن كانت تنتمي عند التمثيل لزمن أفلام المقاولات، وإن لم تجارها في "الحبكة الدرامية"؟ فرواية السلطة في كل مرة تترك ثغرات، تسمح الثغرة الواحدة منها بدخول جيش كامل من الأعداء!
"أصل الحكاية" أن مجنداً في القوات المسلحة، كان في القطار، وإذ طلب منه "المحصل" دفع ثمن التذكرة فظهر أنه لا يملك ثمنها، وعامله "المحصل" بخشونة، هي معروفة عمن يعملون بهذه المهنة، إذ يُصدرون الوجه الخشن ويبدون في جدية صارمة، حتى لا تغري سماحتهم البعض فيمتنعون عن الدفع أو يتجرؤون عليهم، لكن أبداً لم نشاهد هذا المستوى الذي ظهر عليه صاحبنا، فقد كان خشنا معه، قبل أن يصطحبه لتسليمه للشرطة العسكرية، التي تتمركز في محطات القطار.
وهو عندما طالبه بالدفع فقد كان يقوم بعمله الوظيفي، فليس من سلطته تجاوز المعسرين لحين ميسرة، أو التنازل عن حق الدولة. وهناك أمر صارم صدر لهم من وزير النقل الفريق أول كامل الوزير، بعدم التساهل في ذلك، وتم نشره بالصوت والصورة. كما أن "المحصل" لم يرتكب خطأ عندما قرر تسليم الجندي لجهة الاختصاص في التعامل معه، وهي الشرطة العسكرية، لكنه أخطأ في التعامل الخشن، وفي السخرية الواضحة!
دور السيدة:
وفي هذه اللحظة، وقفت إحدى السيدات وأعلنت أنها من ستقوم بدفع ثمن التذكرة، فلديها أبناء مثله، وهو تصرف شهم، نشاهد مثله كثيراً في مثل هذا الموقف، لكن حدث أن المشهد تم تصويره كاملاً، وإذ رأيت وضوح الصورة، وثبات الكاميرا، وعدم انتباه "المحصل" المتجاوز لحدود اللياقة، لها، في حيز ضيق لا يسمح بالاختباء، كما أنه ليس برنامج "الكاميرا الخفية"، فقد تساءلت عن هوية من صور الواقعة، لنكتشف بعد هذا أنه قيادي بحزب "مستقبل وطن"، وهو حزب السلطة، التي تفوز قوائمه في الانتخابات باكتساح، وإن كان عبد الفتاح السيسي ينفي صلته به، ويؤكد أنه يقف على مسافة خطوة واحدة من جميع الأحزاب!
لقد قال الفتى إنه مصور الواقعة، وأجريت معه إحدى الصحف حواراً، تبعته مقابلات تلفزيونية، أعلن فيها أنه من قام بتصوير الملحمة، فلما دخلنا صفحته على "فيسبوك" وجدناه يعلن عن هذا الانتماء الحزبي: "أمين مساعد التنظيم للحزب بمحافظة الغربية". ثم إنه صورته خلفها لوغو "المخابرات العامة"، وقد نشر بطاقات معايدة واحدة من مدير المخابرات الحربية اللواء أركان حرب مراد موافي، والثانية من مديرها التالي له اللواء أركان حرب عبد الفتاح السيسي!
وإذ قلنا إن تهنئة السيسي له ربما ترجع لكونه من شباب الثورة، الذين كان يحتفي بهم المجلس العسكري، ويراعى في المختارين لتمثيل الثورة أن يكونوا شبابا ضحلاً فكريا، لثورة أنتجت مطالب ولم تفرز زعامات، فإن غير المفهوم هو التهنئة الأولى. فاللواء مراد موافي ترك منصبه في سنة 2010، أي قبل الثورة، وليس ثابتاً أن مصور الواقعة فعلاً من شباب الثورة!
وكان هذا الظهور الثغرة الأولى التي دخل منها الشيطان، فالشك لم يتسرب للنفوس من خلال هذا الانتماء الحزبي، وخلفية الصورة والبطاقات لـ"مصور الواقعة"، فقط، كما لم يكن مصدره - فقط - هذا الثبات في التصوير، وعدم الانتباه للمصور، ولو شاهده المحصل في الأحوال العادية لصدر منه تصرف غاضب، لكن فضلا عن كل هذا، فإن اللافت للانتباه أن "الزعيم الحزبي" لم يبادر بدفع ثمن التذكرة، لينهي الأزمة، وإنما انتظر مبادرة السيدة بالدفع. ثم إن الشاهد أن عملية التصوير بدأت قبل الوقوف على عدم قدرة الجندي على ذلك، وكأنه كان يستعد لهذه اللحظة التاريخية من عمر الأمة!
إهانة البدلة العسكرية:
لقد انتشر الفيديو انتشار النار في الهشيم، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبسرعة البرق، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق من خلال صفحة يتابعها قلة، وقامت الحملة على الهجوم على "المحصل"، الذي أهان "البدلة العسكرية"، وتطاول على جندي يخدم الوطن، ويحمي الحدود ويدافع عن الشعب، بجانب الإشادة بالسيدة العظيمة التي هي امرأة بمليون رجل في قول، وبمئة في قول آخر! ولم تكد تمضي دقائق على هذا النشر حتى كانت السيدة معلومة لوسائل الإعلام، التي نشرت صورتها، وأجرت معها مقابلات لهذا الموقف التاريخي، واستقبلها عدد من المسؤولين احتفاء بها، ومن بينهم وزير النقل. فقد كانت في طريقها حيث تقيم في المحلة الكبرى، بمحافظة الغربية وهي ذاتها المحافظة التي ينتمي لها المصور!
كان يمكن للموضوع أن ينتهي عند هذا الحد، بما فيه هذا التضخيم في الواقعة، والحديث المسهب عن كرامة البدلة العسكرية التي أهينت، لكن الأداء الأكثر بؤساً في الأيام التالية عزز من فكرة أنه فيلم رديء، ويفتقد للحبكة الدرامية، بهدف الإلهاء من ناحية، وإثارة الرأي العام للتعاطف مع الجيش، وقد تم اختزاله في أنه أداة حكم، واختزلت الأداة في شخص عبد الفتاح السيسي، تماما كما اختزل مبارك نصر أكتوبر في الضربة الجوية، وهذه الضربة في ذاته، باعتبارها تؤهله لأن يحكم بمقتضاها مصر، وأن يورث الحكم لأهل بيته من بعده!
يقولون إن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وقد بدا لنا أننا أمام مسرحية متعددة الفصول، فلم تنته في اليوم الأول، إنما تم النفخ فيها، وكانت القرارات المتلاحقة. ففي اليوم الأول التقت رئيسة المجلس القومي للمرأة بسيدة القطار وكرمتها بالتعيين في المجلس، والتقاها وزير الدفاع، وأرسل لها عبد الفتاح السيسي هدية عبارة عن هاتف جوال، روعي أنه في "كرتونة" تحمل صورة السيسي ولوغو حزب "مستقبل وطن"، فكنا بهذا أمام مسخرة من العيار الثقيل، ليس لأنها تثبت ما لا يحتاج لإثبات من أن هذا الحزب هو حزب السلطة، ولكن لأن تكون رئاسة الجمهورية ليس فيها حقيبة خاصة بها فتضطر لاستعارة كرتونة من حزب، وهو أداء لا يصدر من مكتب رئيس حي لا رئيس دولة!
ولم يكتف وزير الدفاع بأن يلتقي بالسيدة في مكتبه ليشكرها، وإنما أقام حفلاً مهيباً، حضره مع قيادات الجيش، وتم تكريم سيدة القطار، وليظهر الجندي مجندا لأول مرة بعد الواقعة فيتم تكريمه وكأنه عاد من عملية عسكرية كبرى، انتصر فيها وهزم الأعداء، وتظهر في المشهد سيدة جديدة لم تكن في الحسبان وهي والدة المجند، التي قال محافظ الإقليم إنه سيلتقي بها مع سيدة القطار في وقت واحد، وبشكل لا بد وأن يدفع للتساؤل: ماذا هناك!؟
إن الممثلة المتقاعدة عفاف شعيب أعلنت أنها تتمنى تجسيد شخصية سيدة القطار في فيلم، وهو احتفاء كاشف عن أن هناك شيئا في أعلى الرأس قد توقف!
إشكالية الإعفاء:
وقبل هذا وبعده أعلن وزير النقل، وهو عسكري معروف، أنه ونظراً لما حدث فقد قرر إعفاء رجال القوات المسلحة ومعهم رجال الشرطة من تذكرة القطار، بموجب ارتدائهم للزي العسكري، ليطرح هذا سؤالاً مهما: في ما يختص بالشرطة، هل سيسري القرار على المجندين ومنهم جنود الأمن المركزي؟ وهل يمكن للمواصلات العامة أن تتحمل هذه الأعداد؟ لأنه إذا قيل إن الأمر خاص في الشرطة بالضباط فقط، فسوف نكتشف أنه لن يسري على جنود القوات المسلحة والذين ينتمي لهم صاحب موقعة القطار، وهل سيتم التمييز هنا لصالح الجيش؟ وإذا كان المجندون هنا وهناك يسمح لهم بركوب الدرجة العادية، فهل سيسري القرار بعدم التعرض لهم ومجانية التذكرة على قطار الدرجات الفاخرة؟
وكيف يمكن تقنين الأمر، ومجرد ارتدائهم للبدلة العسكرية يكفي لتمتعهم بالامتياز؟ الأمر الذي يعني تكدسهم في العربات والقطارات الفاخرة المخصصة أصلاً بالحجز المسبق، وللعلم فإن الواقعة جرت في واحد من هذه القطارات!
ومهما يكن فكلما زادت فصول القصة، حدثت ثغرات فيها، لأن من يقوم عليها سيناريست غير محترف، وعقل يفتقد للقدرة على الإبداع!
لقد قال زوج سيدة القطار إنه علم بالواقعة من الناس الذين قالوا له إن زوجتك صارت بطلة، وذلك قبل وصولها للمنزل، وهو أمر طبيعي، فالنشر تم بعد لحظات من وقوع الحادث، لكن لم ينتبه لحاله وهو يقول إنه تلقى على هاتفه اتصالاً من وزير النقل، يسأل عن زوجته!
فمن أين عرف وزير النقل رقم هاتفه، وأنه هو زوجها؟ فإذا سلمنا بأن الوزير علم من النشر، أو من اتصال القيادي بحزب "مستقبل وطن"، بعد الحادث مباشرة، فالمنطق يقول إنه كان سيتحصل منه على هاتف السيدة، لا أن يتصل بزوجها!
في رده على تساؤل أحد المعلقين على صفحته، قال ملك الكاميرا إنه أمكن التوصل إلى السيدة بعد ساعة من الواقعة بعد اتصال ابنها به، ولم يقل إن كان هذا الابن هو المهندس في العاصمة الإدارية الجديدة، أم ابنا آخر! ومهما يكن فاذا كانت هذه الطريقة التي توصل بها إليها، فالمعنى أن وزير النقل تحصل على رقم الهاتف من مصور الواقعة، ومن هنا فقد كان عليه أن يتصل بها، لا أن يتصل بزوجها، فرقم هاتف الزوج ليس مطروحا، ولا نعرف إن كان نجلها اتصل قبل وصولها أم بعده! لكن الزوج قال إن الوزير اتصل به قبل وصولها، فلا يمكن النظر للروايتين معا، ولا بد من نسف واحدة لسلامة الأخرى!
الإنجاز العسكري:
ثم ما هو الإنجاز العسكري المهم الذي تم بسببه تكريم الجندي في حفل عسكري مهيب، إلا إذا كان من رفضه دفع ثمن تذكرة السفر، وتبين بعد ذلك أنه يملك المال اللازم لدفعه وقد دفعه فعلا عندما تدخلت السيدة وعرضت بإلحاح أن تتولى هي ذلك؟ فهل التكريم مساعدة العسكريين على مخالفة القانون والتهرب من دفع أجرة ركوبهم القطار بدون وجه حق؟!
وإذا كانت محاولته التهرب في البداية مردها إلى أنه يدّخر ما في حوزته من أموال لقلتها لأمور أهم، فمن المسؤول عن الإهانة التي لحقت بالبدلة العسكرية؟ أليس قلة مرتبات المجندين؟ لماذا لم ترفع مرتباتهم كما ترفع مرتبات الضباط، ما داموا يلتزمون مثلهم بارتداء الزي العسكري ويشاركونهم في الانتماء للمؤسسة العسكرية، وما يجرح كبرياءهم يلحق بالمؤسسة بشكل عام؟!
إن ما جرى يأتي في سياق التضخيم لإيجاد مبرر لحكم السيسي، لكن فقر الإبداع ينتج هذه الأداء المتهافت. وقد قال ملك الكاميرا إن ما فعله "ذو أثر طيب في توحيد الشعب حول مصر وقيادتها.. الآن ضميري مستريح". فهذا هو الهدف إذاً فهل تحقق؟!
إنه السياق الذي أنتج فيه فيلم "الممر" الذي يتحدث عن استشهاد ضابط جيش، ومن شدة تقمص الممثل أحمد فلوكس للشخصية تم التعامل معه إعلاميا على أنه هو "الشهيد الحي"، وتم النفخ فيه حتى عاش هو الدور في الواقع.
وهو نفس السياق الذي كانوا قد أنتجوا فيه فيلم "الاختيار" الذي عُرض في رمضان الماضي، وكان حول شخصية قائد عسكري في سيناء هو أحمد المنسي!
وهو تحميل للأمور أكثر مما تتحمل للوصول إلى معنى لحكم السيسي، أو كما قال صاحب الكاميرا "توحيد الشعب حول مصر وقيادتها". فالحديث عن كرامة البدلة العسكرية، وتكريم صاحبها على أنه انتصر في موقعة عين جالوت، هو تكريم للسيسي الممثل الرسمي والوحيد للبدلة العسكرية. انظر كيف أن قناة النيل للأخبار ظلت لساعات طويلة تعرض عاجلها على الشاشة: الجيش اللبناني يشارك في إطفاء حريق، لتقف على دلالة هذا من الإلحاح المفرط!
بيد أن النظرة العميقة في صورة الواقعة ستنتهي إلى ما يقلق السيسي. ففي أزمة الجندي مع "المحصل"، أو الكمساري، لم يكترث أحد بالدفاع عن مرتدي البدلة، والانتصار له، وبدت الواقعة قاصرة على أطرافها: "المحصل" و"رئيس القطار"، و"السيدة"، فضلاً عن صاحب "الكاميرا الخفية". ولك أن تقارن بين هذه السلبية والاحتفاء برجال الجيش عقب ثورة يناير وفي أيام الدعاية عن الجيش الذي حمى الثورة، وأجبر مبارك على التنحي!
إنها الرعونة في الأداء، وغياب الإبداع، وافتقاد الفيلم للحبكة الدرامية!
أضف تعليقك