الهجرة النبوية حدثٌ فريد، تأسست فى إثره أقوى دولة وأزهى حضارة، وعلى بساطة مشاهدها فإنها ملهمة الأجيال وعنوان الإسلام القائم على تربية النفس وتهذيب السلوك، والسعى نحو الجنان بتعهد الإيمان وإخلاص النية لله.
تطالعنا تلك الذكرى الميمونة فتهب علينا نسماتها العطرة تغذى الفكر، وتنعش الوجدان وتدفعنا دفعًا نحو المعالى حيث نستغرق فى مشاهد البذل والتضحية، وأجواء التوكل والثبات، ورحمة الله بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين.
ومن بين تلك المشاهد؛ مشهد المرأة التى شاركت فى الحدث منذ مفتتحه، وأبلت فيه بلاء حسنًا، وأقامت الحجة على من يقيدون حركة المرأة، ويضعون أمام مشاركاتها الدعوية والمجتمعية العقبات والعراقيل حتى باتت حبيسة البيت بطيئة الفكر ميتة الشعور.
شاركت المرأة المسلمة فى أول رحلة للهجرة، فى السنة الخامسة من البعثة، والتى توجهت إلى الحبشة وعلى رأسها عثمان بن عفان وزوجه رقية –رضى الله عنهما- وكانوا (11) رجلًا و(4) نسوة. وفى رحلة الحبشة الثانية، وكان على رأسها جعفر بن أبى طالب وزوجه أسماء بنت عميس، بلغ عدد الفارِّين بدينهم (83) رجلًا و(19) امرأة. أما بيعة العقبة الثانية التى مهَّدت للهجرة الكبرى فقد شاركت فيها المرأة أيضًا حيث بلغ عدد من بايعوا النبى –صلى الله عليه وسلم- فى هذه الليلة (72) رجلًا وامرأتين (أم عمارة نسيبة بنت كعب، أسماء بنت عمرو السلمية).
وفى أيام هجرة النبى –صلى الله عليه وسلم- ضربت أسماء بنت أبى بكر –رضى الله عنهما- أروع المثل فى التضحية والفداء، والإخلاص والثبات حيث كانت تقطع نحو ثلاثة أميال فى جوف الليل عبر جبال ووديان مخيفة لتصل بالماء والزاد وحديث القوم إلى الصاحبين، محمد وأبى بكر، فى غار ثور، وهى من تحدَّت أبا جهل ورفضت الإفصاح عن مكانهما رغم ما نالها من إيذاء ذلك الملعون. وقيل –وهذا شرف للمرأة المسلمة-: (لم يكن يعلم بهجرة النبى –صلى الله عليه وسلم- إلا على وأبو بكر وأسماء وعائشة).
وتلك المواقف المساندة للدعوة الوليدة من جانب المرأة لم تبدأ مع الهجرة، بل بدأت مع أول نزول الوحى واتصال السماء بالأرض، بمواقف خديجة –رضى الله عنها- التى كانت أول من أسلم، والتى قالت تطمينًا لزوجها ونبيها لما رأى المَلَكَ: (والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق).
ولن يتوقف بنا الحديث إذا ما استعرضنا دور المرأة فى تأسيس الدعوة وحمل مسئولياتها والمشاركة فى انطلاقتها التاريخية داخل وخارج الجزيرة، غير أننا نلمح ببعض المواقف المرتبطة بحادث الهجرة؛ فقد حفظ التاريخ لنا موقف "أم أيمن" حاضنة النبى –صلى الله عليه وسلم- المهاجرة على قدميها، والتى قطعت المسافة بين مكة والمدينة وحيدة مجردة من الأمن وقد نفد ماؤها وزادها فتكفل الله بها حتى وافت المدينة ولحقت بركب الأصحاب.
ونذكر موقف "أم أيوب الأنصارية" التى استقبل بيتها النبى –صلى الله عليه وسلم- فكان نعم النُزُل لأكرم الأنبياء والرسل.
ونذكر موقف "أم سلمة" التى تفرقت أسرتها وانتُزع منها وليدها وحُبست فى مكة حتى يسر الله لها أسباب الهجرة فدخلت "يثرب" بعد عام كامل من الانتظار والمعاناة.
يخطئ من يظن المرأة المسلمة تابعًا لا جدوى منها فى الحقل الدعوى، وقد سرى هذا الظن –للأسف- فى الجيل المتأخر مشككًا فى قدرات المرأة وإمكاناتها. والحاصل أن هذا نتاج تلك العقول المنغلقة التى قصرت دورها على خدمة الرجل والتلهى بها، أما الإسلام فلا يعرف هذه الوساوس، فهو يعترف بالمرأة كأحد شطرى النوع الإنسانى، وهى كالرجل تمامًا فى التكاليف الدينية، ولها حقوقها المكتسبة التى أقرها الشرع (كالميراث والذمة المالية ومشاركة الرجل فى الحياة الاجتماعية.. إلخ)، ولها الأهلية الكاملة والشخصية المستقلة. باختصار: الإسلام يبغيها ذات شخصية قوية، طاهرة عفيفة، بعيدة عن الدجل والخرافة.
إن المرأة العربية التى كانت تُورَّث كالمتاع جاء الإسلام ليحررها من هذه العبودية، ويساويها بالرجل، ويمنع التمييز بين النوعين، ويمنع العادات التى تحرِّض على كراهيتها. يصف عمر حال هذه المرأة بقوله: (كنا فى الجاهلية لا نعتد بالنساء، ولا ندخلهن فى شىء من أمورنا، بل كنا ونحن بمكة لا يكلم أحدنا امرأته، وإذا كانت له حاجة سفع برجليها فقضى منها حاجته، فلما جاء الله بالإسلام أنزلهن حيث أنزلهن، وجعل لهن حقًّا)، فصارت لذلك داعية وعالمة وفقيهة
عن أبى موسى الأشعرى –رضى الله عنه-: (ما أُشكل علينا –أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- حديثٌ قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا).
ولقد أدركت الحركة الإسلامية المعاصرة خطورة مهمة المرأة فى تربية النشء والإصلاح المجتمعى فبذلوا قصارى جهدهم للنهوض بها، وإخراجها من البيئات التى تحرِّض عليها إلى حيث مشاركة الرجل فى الإرشاد، ولِمَ لا وهى أحد جناحى الدعوة، وإهمالها يعنى إضعاف الحركة وذبولها.
ولا يخفى أن المرأة المعاصرة قد واجهت المحن التى واجهها الرجال، وصمدت فيها، بل كانت عامل تثبيت للرجال؛ حيث وقفن بكل جرأة فى وجوه الطغاة، فوق ما قمن به من رعاية الأبناء وإدارة البيوت فى غياب الأزواج، ورأيناها مؤخرًا ترفع الراية التى ألقاها كثير من الرجال يأسًا وجزعًا، رغم ما نالها من القتل والسجن والترويع والاغتصاب، وكان من بينهن ذوات عقل راجح ورأى معتبر.
لتكن ذكرى الهجرة المباركة دافعًا لإعادة النظر فى كثير من المواقف، من بينها موقفنا من المرأة الذى غبش وماع؛ لغلبة العادة والتقليد على الشرع والدين.
أضف تعليقك