بقلم: سيف الدين عبدالفتاح
من الأهمية في هذا المقام، وقد أشرنا إلى أهمية اعتبار مفهوم المواطنة في جوهره مفهوما اجتهاديا إنسانيا، أن نتعرف على طبيعة الإشكال الذي تحمله هذه القضية، وما قد يتركه ذلك من موقف سلبي لبعض التوجهات الإسلامية تجاه مفهوم المواطنة.
يبدو أننا أمام إشكالية مركبة تتمثل في ثلاث كلمات؛ الأولى منها تتعلق بالمواطنة، والثانية تتعلق بالدولة، والثالثة تتعلق بوصف مسلمة. وفي هذا الإطار تكمن تلك الإشكاليات في أن مفهوم المواطنة هو من المفاهيم الغربية التي سادت المعمورة، وانتقلت من ذلك السياق الحضاري الغربي. أما الكلمة الثانية فهي ترتبط بحالة غربية أيضا تتعلق بمفهوم الدولة القومية ومقتضياته وإشكالاته في الدول المختلفة على تنوع المعمورة. أما الكلمة الثالثة فترتبط بوصف مسلمة أو إسلامية، وإذا اعتمد في هذا المقام وصف "مسلمة"؛ يكون أفضل بما يعبر عن حالة إجرائية غاية في الأهمية، ذلك أن على عالم المسلمين أن يدرك أنه في عالم متغير بكثير من سماته، وبالعديد من معطياته. يتأكد ذلك من واقع يجب أن نتحرى بصدده المناط، ومن رؤية يجب أن نحدد بصددها منهج النظر وبناء الموقف.
نحن إذن أمام علاقة غاية في الأهمية، تأخذ تجليات وإشكالات بين الإسلام والغرب في الأفكار وفي واقع الدولة القومية وفي واقع عالم المسلمين. وغاية الأمر في هذا الإطار أنه من الواجب علينا أن نحدد طبيعة الإشكالية المنهجية في هذا المقام؛ من فقه للواقع ومن تحديد للمناط يجعل هذا الارتباط بين المواطنة من جهة، والدولة القومية من جهة أخرى، وعالم المسلمين من جهة ثالثة، وهو ما يشكل في حقيقة الأمر إشكاليات مركبة تتطلب رؤية منهاجية واضحة تحدد مناهج النظر ومناهج التناول والتعامل.
وغاية الأمر في هذا المقام أن نؤصل معنى هندسة الاجتهاد المقاصدي كمدخل تأسيسي للنظر إلى هذا المركب، ذلك أنه لا يقف عند حدود الرسوم والأشكال، متخطيا ذلك باعتبار الواقع والمآل. ومن هنا فإن هذا الإشكال المنهجي التأسيسي يفرض علينا أن نتحرك صوب التعامل مع إشكالات المواطنة ذاتها، مستصحبين سياق الدولة القومية من جهة، وعالم المسلمين بمرجعيته الإسلامية من جهة أخرى، وهو أمر يفرض علينا مناهج النظر للتعامل مع الواقع، إذ يؤصل المعنى الذي يتعلق بجهات الاختلاف، سواء تعلق الأمر بالمكان أو بالزمان أو الإنسان، وبمجمل الأمر في كافة الأحوال.
وحول مبدأ المواطنة تثار أسئلة وإشكاليات عميقة أهمها ينبع من متطلبات تفريد الولاء للوطن، وتقديمه على ما سواه من الهويات والانتماءات الفرعية. وفي مواجهة التقاطع الذي قد يحصل بين الانتماءات المتناظرة للأفراد تحت مظلة الوطن الواحد، فإن منهج النظر الإسلامي قد أوجد حالة من التناغم والتوازن الخلاق بين منعرجات خارطة الانتماءات المتناظرة تلك. وهكذا بلغت الرؤية الإسلامية (في حقوق المواطنة ومحدداتها) آفاقا راسخة متجددة. غير أننا في المقابل لم نشهد خطاباً إسلامياً معاصرا يتبنى المواطنة في عمق التنظير القيمي للدولة وللمجتمع السياسي الحديث، أو بالمعنى الذي ينصرف الى العلاقة الأكيدة والسوية بين المجتمع والدولة.
لذا توجّب علينا في هذا المقام التحري عن ملامح المواطنة واستخلاص الأبعاد والملامح الحقيقية لها، وتجذير الوعي بأهميتها بالاستناد إلى قيم الإسلام وتجربته التاريخية في ظل الدولة التي أقامها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ بوصفها المرجعية الشرعية والتاريخية التي ينبغي على المسلمين وغيرهم الاحتكام إليها في ضبط الحدود المعيارية لمبدأ المواطنة ومعالجة ما يواجهه من إشكاليات وتحديات، عبر اعتماد آليات ووصفات إسلامية تنسجم مع روح العصر.
وفي ضوء ذلك يمكن بناء فرضية مفادها "أن خصوصية المنهج قد أقام بناء متوازنا للمواطنة يستوعب في جنباته تقاطعات الانتماءات المتناظرة للفرد المسلم، دون تفريط بأولوية الانتماء للهوية الإسلامية المرتبطة بالمرجعية وتحقيق مستلزماتها".
إن هذا الأمر إنما يشير إلى الإشكال الحيوي الذي يتعلق بالعلاقة بين المواطنة والدين، وبين المواطنة ودوائر الانتماء، وبين المواطنة وعلاقتها بالسياسي والمدني، وبين المواطنة وعلاقتها بمسالك ومداخل التنشئة السياسية والأطر والسياقات الغربية التي تنظر إلى مفهوم المواطنة باعتباره مفهوم منظومة في ذاته، وضمن منظومة تتعاضد معه وتشكل مساراته.
وفي هذا المقام وجب علينا أن نحدد لهذا المفهوم في مبناه معنى نحاول أن نتلمس بعض مرئياته ضمن رؤية إسلامية متميزة، ولكن في إطار سياق إنساني وحضاري يعتمد الدولة القومية كوحدة تأسيس في العلاقة بين الدول مع بعضها البعض.
وضمن هذا المقام يجب أن نتطرق إلى مشكلة الدولة في عالم العرب والمسلمين والتعاطي معها، ذلك أن الدولة القومية بما افترضته من أطر عامة للتعامل جعل كثيرا من الاجتهادات الماضية وبحكم فقه الواقع وتحقيق المناط؛ تتعامل مع سياق مختلف لا يتطابق مع سياق الاجتهادات في الماضي.
إن القضية والإشكالية الأساسية في هذا المقام هي إشكالية منهاجية أيضا؛ تتعلق بسياق الدولة القومية الذي لا بد وأن يؤثر على تصور المواطنة وتفعيل معطياتها. وضمن ذلك لا بد وأن تأتي الإشكالية التي تتعلق بذلك الوصف لهذه الدولة بالمسلمة لتعبر عن إشكالية منهجية أخرى ترتبط بإطار المواطنة ومسار الدولة القومية في آن واحد، فتعبر بذلك عن إشكالية عالم المسلمين في الواقع الحاضر الذي يتنازعه جهازان مفاهيميان؛ جهاز مفاهيمي غربي النشأة، وهو الذي يسود بحكم الحضارة الغالبة، وجهاز مفاهيمي يرتبط بالحضارة الإسلامية ويتحرك صوب الواقع المعاش ليتعرف من خلاله على حقائق الاشتباك والتداخل بين الجهازين المفاهيميين.
ومن هنا وجب أن يكون الموقف مركبا يعبر عن حقائق عدة؛ نحاول من خلالها أن نوضح الموقف الأساس من عملية فض اشتباك على نحو منهاجي يؤصل لمضمون مفهوم المواطنة في الذاكرة الحضارية الإسلامية، ويمد ذلك إلى إطار لتفعيله في سياقات الدولة القومية وما يتطلبه ذلك من إمكانات اجتهادية وتجديدية، لأننا بذلك سنخرج من أسر ثلاثة أمور: الأسر الأول هو ذلك الذي يتعلق بطبيعة الجهاز المفاهيمي الغربي وافتراضاته، والأسر الثاني الذي يرتبط بالفقه التقليدي في مضامينه الذي يتعلق بأزمانه الخاصة، أما الأسر الثالث فيتعلق بإمكانيه تفعيل وتشغيل مفهوم المواطنة في سياق رؤية إسلامية واعية لا تغادر المفهومات الحديثة، وتؤصل معاني التفعيل الإسلامي من خلال صبغ هذه الرؤى من مداخل مقاصدية تستطيع أن تستوعب معطيات التغير وأصول المرجعية.
إن ذلك يعني القيام بعمل مركب وبموقف يتصل بمناقشة طبيعة هذه الإشكالات على نحو منهاجي ومنظومي ودينامي حركي وتشغيلي، ومن هنا يجب التعرض إلى موضوعات شتى، لتكوين رؤية بصيرة لقضية المواطنة في دولة مسلمة. وواقع الأمر أننا لا نستطيع أن نتحدث عن هذه الرؤية المركبة إلا من خلال استعراض المواطنة كمفهوم غربي، وتقديم رؤية نقدية له من منظور إسلامي أو غير إسلامي، أولا، والأمر الثاني فيتعلق بضرورة أن نقدم معاني الذاكرة الحضارية لمفهوم المواطنة في سياق مقارن يؤكد على معاني غاية في الأهمية ترتبط بالخبرة النبوية. إن وثيقة المدينة في هذا المقام تشكل أساسا مكينا ورصينا لرؤية متميزة لمفهوم المواطنة وبناء المجتمع السياسي. أما الأمر الثالث فيتعلق بضرورات إعادة بناء مفهوم المواطنة ضمن رؤية مقاصدية كلية وحقائق تتعلق بالجماعة الوطنية، ونماذج ترتبط بالمواطنة السفنية (استنادا الى حديث السفينة للنبي عليه الصلاة والسلام)؛ هذه الرؤية تتطلب قدرا من الدرس والمتابعة.
أضف تعليقك