من المهم أن نؤكد، وفقا لرؤية عبد الرحمن الكواكبي الشبكية للاستبداد، وتشابك العوامل المتعدّدة في تكريس بنيانه، وإسناد سياسات طغيانه وتدعيمها؛ أنه عند الإتيان بالعوامل والأركان الداعمة لحالة الاستبداد، من التمجّد والمال والتربية، أشار دائما إلى حضور الأبعاد الخلقية والقيمية في المسألة الاستبدادية، والوقوف على أخلاق تمثل قابليات للاستبداد؛ فالتمجّد مُفسد للأخلاق، وكذلك المال والتربية. كل هذه العناصر تتضافر في تمكين الأخلاق المواتية للحالة الاستبدادية، بما تشكله من قابليات، الظاهرة والقابلية للظاهرة من القوانين التأسيسية الحاكمة في هذا المقام؛ ولا نجد أفضل من باب الأخلاق والاستبداد ليؤكد تلك القابليات والشبكية في تكوين الظاهرة الاستبدادية، ".. الاستبداد يتصرَّف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيُضعفها، أو يُفسدها، أو يمحوها، فيجعل الإنسان يكفر بنِعَم مولاه؛ لأنه لم يملكها حقّ الملك ليحمده عليها حقّ الحمد، ويجعله حاقداً على قومه؛ لأنهم عونٌ لبلاء الاستبداد عليه، وفاقداً حبّ وطنه؛ لأنَّه غير آمن على الاستقرار فيه، ويودُّ لو انتقل منه، وضعيف الحبِّ لعائلته؛ لأنه يعلم منهم أنَّهم مثله لا يملكون التكافؤ، وقد يُضطرّون لإضرار صديقهم، بل وقتله وهم باكون. أسيرُ الاستبداد لا يملك شيئاً ليحرص على حفظه؛ لأنَّه لا يملك مالاً غير معرَّض للسّلب ولا شرفاً غير معرَّض للإهانة.
ولا يملك الجاهل منه آمالاً مستقبلة ليتبعها ويشقى كما يشقى العاقل في سبيلها". فعل الاستبداد في عالم الأخلاق والقيم أنه يقوم في أحسن الأحوال بإضعافها؛ وربما بإفسادها؛ وفي أسوأ أحواله يقوم باستئصالها ومحوها تماما من جملة ما يهدمه الاستبداد وينقضه، فالظلم لا يخرب فقط العمران ولكنه كذلك يخرب الأسس القيمية والأخلاقية له.
وفي إطار تصنيف الكواكبي الخصال، يجعلها حسنة طبيعية والثانية كمالية، والأخيرة ضمن هذه المنظومة الخصال الاعتيادية؛ هذه الخصال جميعا، وعلى تفاوت في ما بينها، تقع تحت تأثير طول الأمد، وما أسماه الألفة المديدة، فيتراكم الخلق اللئيم في مقابل الخلق الكريم، فيدفع الاستبداد والمستبد إلى تمكين منظومةٍ أخلاقيةٍ تكون في دعمه وإسناده وخدمته؛ وتتشاكل الخصال على شاكلته، بحيث يألف هؤلاء الظلمة والجبارون والمستبدون؛ فلا ترتج في أفئدتهم عاطفة رحمة عند قتلهم أفرادا أو أمما لغاياتهم السياسية؛ "ثمَّ إنَّ التدقيق يفيد أنَّ الأقسام تشتبك وتشترك ويؤثر بعضها في بعض، فيصير مجموعها تحت تأثير الألفة المديدة، بحيث كلُّ خصلة منها ترسخ أو تتزلزل، حسب ما يصادفها من استمرار الألفة أو انقطاعها، فالقاتل، مثلاً، لا يستنكر شنيعته في المرّة الثانية كما استقبحها في نفسه في الأولى، وهكذا يخفُّ الجرم في وهمه، حتى يصل إلى درجة التلذذ بالقتل، كأنّه حقٌّ طبيعي له، كما هي حالة الجبّارين وغالب السياسيين الذين لا ترتجُّ في أفئدتهم عاطفة رحمةٍ عند قتلهم أفراداً أو أمماً لغاياتهم السياسية، إهراقاً بالسيف أو إزهاقاً بالقلم، ولا فرق بين القتل بقطع الأوداج والإماتة بإيراث الشقاء غير التسريع والإبطاء".
إذا تشكل البنية القيمية التي يحاول الاستبداد والمستبدون صناعتها على أعينهم وبمعرفتهم، معتمدين في ذلك على طول الأمد واستخدام المؤسسات المتعلقة بذلك، لتوطين البيئة المواتية للاستبداد، وتطبيع البشر كقطيع يتشرّب هذه القيم الاستبدادية التي ترسخ مع مرور الزمن وطول الأمد؛ وهو ما سيشير إليه الكواكبي في أخلاق أسرى الاستبداد.
أضف تعليقك