الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وإمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
حكاية اليوم حكاية عجيبة: إنها حكاية امرأة اتخذت مِغزلاً قدرَ ذراعٍ، وصنَّارةً مثلَ إصبع، وفلقة عظيمةً على قدرها، فكانت تغزل الصوف هي والعاملات معها من الصباح إلى المساء، حتى يصنعن شيئًا عظيمًا، وبعد أن يتممنه وينسجنه ويحسنَّه؛ إذا بها تأمر العاملات فينقُضْن ما غزَلْن، وتمسك الفتلة الأساسية فتشدَّها فَتَكرُّ كلَّ الذي عملتْه طوالَ النهار، فيعود مرةً أخرى خيطاً كما كان، وفي اليوم الثاني ظلَّت تعمل هي ومن معها من الصباح إلى المساء، وفي آخر النهار تسحب الفتلة مرةً أخرى، فيعود خيطًا كما كان، وهكذا كانت تعمل معهنَّ كل يوم، فكل الذي يعملنه طول النهار يضيِّعنه في لحظة حين ينقضن هذا الغزل.
ما رأيكم في هذا التصرُّف؟ هل هذه المرأة عاقلة؟ لو أن أحدًا مِنَّا مكانها هل كان سيعمل هكذا مثلها؟ يجلس طوال النهار يعمل، وفي آخر النهار يضيِّع عمله في لحظة؟ في الحقيقة، إن كثيرًا من العقلاء يعملون هذا وهم لا يشعرون.
نصوم رمضان، ونقوم ليله، ونتعب فيه، ثم يأتي العيد، فننسى أننا كنَّا في رمضان، ونضيِّع ما أتعبنا فيه أنفسنا، ونضيع صيامًا طويلاً، وقيامًا طويلاً، وعملاً متواصلاً، واجتهادًا عظيم في رمضان، ثم تفاجأ في أول شوال أن الذي كان يصلي الفجر لم يعد يصلي الفجر، والذي كان يصلي العشاء في جماعة لم يعد يحافظ على الجماعة، والذي كان محافظًا على لسانه بدأ يطلق لسانه بما لا يليق.
شيء عجيب جدًّا! دار سينما تعلِّق إعلانًا كبيرًا على الطريق من أول رمضان تقول فيه: "السينما مغلقة بمناسبة شهر رمضان الكريم" بالأمس بدأت في الإعلان عن أفلام العيد، وكأنما كل ما كان في رمضان قد انتهى، وكأن رمضان هذا شرطي يمسك المتلبِّس، فإذا مضى فالأمر كما تقول العامة في مصر: "إن غاب القط العب يا فأر".
نحن للأسف نقع في هذا الخطأ كثيرًا، حينما نعبد الله سبحانه وتعالى في رمضان، ثم نهمل هذه العبادة بعد رمضان، وقد نبهنا الله عزَّ وجلَّ، وحذَّرنا من هذا السلوك الخاطئ، فقال سبحانه: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا﴾ (النحل: من الآية 92). وأنكاثًا: يعني أنقاضًا جَمْعُ نِكْثٍ، وَهُوَ الْغَزْلُ المَنْقُوضُ.
يعني لا تفعلوا مثل هذه المرأة، فالإنسان الذي صام وجاع وعطش ومنع نفسه من المباحات، وأتعب نفسه غاية التعب، وقام الليل، وقرأ القرآن، وفعل الخيرات، وتصدق، وحفظ العين واللسان، ثم يخرج من رمضان، فيفسد كل ما كان يعمله، وينهمك في المحرمات وترك الطاعات، هو أشبه شيء بهذه التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.
يجب أن يكون لنا وقفةٌ في آخر الشهر الكريم، نعاهد الله فيها أن نستمر على ما كنَّا عليه في رمضان، فما الذي يمنعنا من أن نحافظ على الفجر، وعلى صلاة الجماعة، كما كنا نحافظ في رمضان؟ وما الذي يمنعنا أن نحفظ ألسنتنا كما حفظناها في رمضان؟ هل غاب رب رمضان مع غياب رمضان؟ لقد جعل الله رمضانَ فرصةً؛ ليتعوَّد الإنسان على عادات الخير، يتعوَّد الذي لا يصلي الفجر أن يصلي الفجر ويعتاد عليه، ويتعوَّد الذي لا يصلي في جماعة أن يصلي في جماعة، ويعتاد عليها، ويتعوَّد الذي لا يتطوَّع ولا يقوم الليل أن يقوم الليل، فيقوم بعد رمضان ويصلي ليلةً بعد ليلة لله رب العالمين، ويتعوَّد الإنسانُ على حفظ اللسان فيخرج من رمضان محافظًا على لسانه، وهكذا، فهذه هي ثمرة الصوم الحقيقة.
ولهذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدوام على ما اعتاد المرء من الخير من غير تفريط، فأخرج البخاري عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ اللهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ".
وكان صلى الله عليه وسلم يداوم على أعمال الخير، ويدعو إلى المداومة عليها، فأخرج البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: "أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ".
وأخرج مسلم عنها رضي الله عنها أن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "أحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلّ".
ثمرة رمضان في الحقيقة تظهر بعد رمضان، فمن استمرَّ على أخلاق رمضان وعلى عبادات رمضان وعلى طاعات رمضان، فهذا بالفعل قد أدَّى صيامًا صحيحًا مقبولاً، والله تعالى يقول ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾ (البقرة)، وأخرج الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ صَامَ يَوْمًا في سَبِيلِ اللهِ بَاعَدَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا"، سبعين سنةً بينه وبين النار إذا صح صيامه.
الصيام الذي يجعل العبد يباعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا هو الصيام الذي يحقِّق في الدنيا التقوى، ومن ثَمَّ يحقق النجاة في الآخرة؛ لأنَّ الصيام إما أنه صحيح فأنتج أثرًا نلمسه، وبالتالي حين نلقى الله نطمئن أنه سيعطينا نفس الأثر، وينجِّينا من عذاب النار، وإما أنه لا يعطي الأثر في الدنيا فلن يعطيه في الآخرة، فالصيام الذي لا يحقق لصاحبه التقوى لا يتوقَّع أن ينجي صاحبه من عذاب الله رب العالمين.
نحن أمام اختبار بعد رمضان، ينبغي أن نكون فيه عقلاء، لا ننقض ما غزلنا، ولا نضيع ما بذلنا فيه جهدنا، ولا ننكث بعهد الله الذي عاهدناه.
اللهم ثبتنا على الطاعات التي كنَّا عليها في رمضان، وزدنا منها يا رحيم يا رحمان، اللهم ثبتنا على كل خير واحفظنا من كل شر، واجعلنا ممن يداومون على فعل الخيرات وترك المنكرات، بحولك وقوتك يا أرحم الراحمين، واغفر لنا في خاتمة الشهر الكريم ولأحبابنا وذوينا ولسائر المسلمين، إنك يا ربنا على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------
* عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين وعميد كلية أصول الدين بالمنصورة بجامعة الأزهر.
أضف تعليقك