كان للشهيد سيد قطب - رحمه الله - لمحات ذكية وإشراقات جلية في الحديث عن الصوم وفائدته، وعن ارتباط الصوم بشهر القرآن.. شهر رمضان، وذلك في أثناء تعرضه لآيات الصوم في كتابه القيم "في ظلال القرآن".
وأول ما يلفت الذهن في حديث قطب عن الصيام، أنه ربط بين الجهاد وبين الصيام، فهو يرى أن أمة فُرض عليها الجهاد من الطبيعي أن يفرض عليها الصوم، وهو يشير بهذا إلى أن الصوم به من الجهاد قدر كبير.
تقرير للإرادة
ويعرف الصوم على أنه: "استعلاء على الضرورات، وصبر عن الحاجات الأولية للحياة، وتقرير للإرادة، وتوكيد لغلبة الإنسان في هذا الكائن البشري على الحيوان".
وإذا كان الجهاد "لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة به على البشرية، وللشهادة على الناس؛ فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة، ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد، كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها، إيثارًا لما عند الله من الرضا والمتاع".. فالصوم سبيل أول للسير على طريق الجهاد، ويتطلب سموًّا عن متطلبات الجسد. إنه طريق من طرق ممارسة الجهاد.. جهاد النفس.
ويرى قطب من هذا المنطلق حتمية ووجوبية الصوم؛ فبه يتم إعداد النفس "لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات والذي تهتف بسالكيه آلاف المغريات"؛ فمن يصبر على حبس النفس عن مباحاتها ومغرياتها، قادر على جهاد الطريق المليء بالشوك والعقبات.
التقوى.. يقظة
أما التقوى -وهي الحكمة التي ذكرها الله تعالى للصيام (لعلكم تتقون)- فإنها الدافعة لكل عمل، سواء أكان عبادة أم جهادًا. ويبين قطب لماذا كانت التقوى هي المقصود الأول من الصيام: "فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب، وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثارًا لرضاه. والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال".
واختار الله التقوى؛ لأن المسلم المخاطب بهذا القرآن يعلم مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي الغاية التي تتطلع إليها أرواح المسلمين، "وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها؛ ومن ثَم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفًا وضيئًا يتجهون إليه عن طريق الصيام.. (لعلكم تتقون)".. والتعبير بلعل يفيد رجاء الحصول، فصوموا كما أمر الله ينيلكم الله تقواه.. ويا لها من جائزة.
ويركز قطب دائمًا على الملمح التربوي في الصيام، ويشير دومًا إلى أن المقصود من فرضه هو الملمح التربوي، ويعلق على قوله تعالى: "وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون" قائلاً: "لما في الصوم من خير في هذه الحالة.
يبدو منه لنا عنصر تربية الإرادة، وتقوية الاحتمال، وإيثار عبادة الله على الراحة. وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية"، ويبين أن المقصود من العبادات هو "... إنشاء حالة شعورية هي الغاية المقدمة منها. وهذه الحالة هي التي تحكم سلوك المتعبد، وعليها الاعتماد الأول في تربية ضميره، وحسن أدائه للعبادة وحسن سلوكه في الحياة...".
ونحن بصومنا نكون أقرب إلى شكر الله وإدراك فضله علينا، مع هذا الصوم الذي تصفو فيه النفس، وتنتصر على شوائبها، فغاية الفريضة "أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم. وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة. وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها. وهم شاعرون بالهدى ملموسًا محسوسًا. ليكبروا الله على هذه الهداية وليشكروه على هذه النعمة. ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة".
إعداد النفس البشرية
وإذا كان الصوم طريقًا أول للجهاد، وإعدادًا لتحمل مشاقه، وعنصرًا كبيرًا من عناصر التربية، وسبيلاً إلى شكر الله، فإن قطب لا يفوته أن يركز ويذكر أن حكمة العبادات جميعها هي إعداد النفس البشرية لدورها المنوط بها على الأرض وهو إعمارها، وتهيئة هذه النفس للكمال المقدر لها في الآخرة.
ومع هذا، يجب ألا نندفع ونبحث دائمًا عن "تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية في العبادات -بصفة خاصة- بما يظهر للعين من فوائد حسية"، فليس الصوم مفروضًا؛ لأن به من الفوائد الصحية كذا وكذا.
ولا ينفي الشهيد قطب ولا يهمّش ما "تكشف عنه الملاحظة أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض"، وينبغي ألا نعلّق حكمة التكليف الإلهي بما يكشف عنه العلم البشري، وسعيه في اكتشاف الحكم؛ وذلك لأن مجال "هذا العلم محدود لا يتسع ولا يرتقي إلى استيعاب حكمة الله في كل ما يروض به هذا الكائن البشري، أو كل ما يروض به هذا الكون"، فعلمنا ناقص، وما نكشف عنه من حكم اليوم ربما لا يكون صحيحًا غدًا، وهكذا...
التحفيز للصوم
وإذا كان الصوم فرضًا، ونحن مأمورون بتنفيذه؛ إلا أن الله سبحانه حينما كلفنا به استجاش فينا شعورنا لنسعى إلى تنفيذ أمره محبين، وأوضح قطب ذلك مبينًا أن الله سبحانه وتعالى حين أمر بالصيام دفع المسلمين إليه دفعًا، واستجاش فيهم عواطفهم؛ لأن "التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له، مهما يكن فيه من حكمة ونفع، حتى تقتنع به وتراض عليه"؛ ولهذا بدأت آية الصيام بقوله: "يا أيها الذين آمنوا"..
ومن هنا ينبغي أن نفهم قضية التحفيز للصوم فهمًا جيدًا؛ فإذا كان الله قد حفز المؤمنين إلى الصيام، فينبغي علينا نحن أن نحفز إلى الله وإلى عبادته، وأن تكون هي وسيلتنا الغالبة، لا أن نكون منفرين عنه وعن عبادته، وهي قضية جديرة بالفهم والملاحظة والتنبيه عليها.
أيامًا معدودات.. لماذا؟
تحب النفس بطبعها الفهم والإفهام، وهو ما أدركه سيد قطب؛ فأخذ يشرح كيف أن الله كان رفيقًا بعباده حين جعل الصوم أيامًا معدودات، ومع كونه أيامًا قلائل أباح فيها للمريض والمسافر الفطر، مشيرًا إلى أن مجيء لفظ المرض والسفر مطلقين يبيح الفطر لأي سفر وأي مرض، على أن يقضي المريض الصوم حين يصح والمسافر حين يقيم.
ويبين أن هذا الفهم "هو الأولى في فهم هذا النص القرآني المطلق، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومنع الضرر؛ فليست شدة المرض ولا مشقة السفر هي التي يتعلق بها الحكم إنما هي المرض والسفر إطلاقًا؛ لإرادة اليسر بالناس لا العسر.
ونحن لا ندري حكمة الله كلها في تعليقه بمطلق المرض ومطلق السفر، فقد تكون هناك اعتبارات أخرى يعلمها الله ويجهلها البشر في المرض والسفر، وقد تكون هناك مشقات أخرى لا تظهر للحظتها، أو لا تظهر للتقدير البشري".
وألمح قطب إلى خطأ تشدد الفقهاء واشتراطهم الشروط في حل الفطر في السفر والمرض، لكنه يشير إلى أن الأفضل أن يترك الأمر على عموميته؛ "فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات، إنما يقودهم بالتقوى.
وغاية هذه العبادة خاصة هي التقوى. والذي يفلت من أداء الفريضة تحت ستار الرخصة لا خير فيه منذ البدء؛ لأن الغاية الأولى من أداء الفريضة لا تتحقق. وهذا الدين دين الله لا دين الناس.
والله أعلم بتكامل هذا الدين، بين مواضع الترخص ومواضع التشدد، وقد يكون وراء الرخصة في موضع من المصلحة ما لا يتحقق بدونها. بل لا بد أن يكون الأمر كذلك. ومن ثَم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ المسلمون برخص الله التي رخصها لهم، وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال فإن إصلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام، ولكن يتأتى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوى في أرواحهم.
والأولى على كل حال أن نأخذ الأمور بالصورة التي أرادها الله في هذا الدين. فهو أحكم منا وأعلم بما وراء رخصه وعزائمه من مصالح قريبة وبعيدة".
علاقة الصوم بالقرآن
وعن علاقة رمضان وصومه بالقرآن؛ يتحدث قطب قائلاً: "والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، فأنشأها هذه النشأة، وبدلها من خوفها أمنًا، ومكّن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة، ولم تكن من قبل شيئًا.
وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء. فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن، بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن"، في ليلة مباركة و"إنها لمباركة حقًّا تلك الليلة التي يفتح فيها ذلك الفتح على البشرية والتي يبدأ فيها استقرار هذا المنهج الإلهي في حياة البشر والتي يتصل فيها الناس بالنواميس الكونية الكبرى مترجمة في هذا القرآن ترجمة يسيرة..
تستجيب لها الفطرة وتلبيها في هوادة، وتقيم على أساسها عالمًا إنسانيًّا مستقرًّا على قواعد الفطرة واستجاباتها، متناسقًا مع الكون الذي يعيش فيه، طاهرًا نظيفًا كريمًا بلا تعمل ولا تكلف، يعيش فيه الإنسان على الأرض موصولاً بالسماء في كل حين".. فإذا كان القرآن هو واهب الأمة مقوماتها، فرمضان إذن بداية مولد هذه المقومات.. بداية مولد المسلم حامل هذه المقومات.
والخلاصة أن المؤمن عليه أن يستفيد من رمضان العيش بين شعوره بتيسير شكر الله والانصياع لأوامره، وإعداد النفس لكمالها الدنيوي والأخروي؛ بحيث تتم له فائدة الصيام الصحيح المقبول.
أضف تعليقك