كان المفترض أن يخرج المجتمع من جائحة كورونا أكثر إنسانية وأحرص على قيم العدالة والمساواة أكثر مما مضى، غير أن ما يدور حولنا يثبت أن الكون يكاد يعبر محطة كورونا وهو أكثر صفاقةً وانتهازيةً، يستوي في ذلك المجتمع الدولي، أو على مستوى الدول والأفراد والكيانات الاقتصادية.
بل إنك لا تبالغ إن قلت إن بعضهم لا يتصوّر أن تمر الجائحة من دون أن يكون اقتنص بعض المزايا والأرباح، فقرّر أن يغترف قبل أن ينخفض منسوب نهر الاستثمار، لتجد نفسك أمام وضع بائس يتشارك فيه أصحاب السلطة، على اختلاف أحجامهم وأوزانهم، مع مراعاة فروق التوقيت، ذلك أن من طغاة الحكم من استقبل الجائحة بترحابٍ منذ اليوم الأول، وقرّر استثمارها أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا، ومنهم من وجد أن الوباء يوشك أن يلملم أوراقه وينسحب رويدًا ورويدًا، من دون أن يكون قد حصد شيئًا، فقرّر أن يلتحق بقطار الجائحة، قبل أن يتوقف ولا يغادره إلا ببعض المكاسب.
لو نظرتَ إلى منظومة العلاقات الدولية قبل الجائحة وبعدها لن تحتاج جهدا كثيرا لتكتشف أن مفهوم الأسرة الإنسانية الواحدة صار أبعد تحليقًا في سماء اليوتوبيا مما كان عليه قبل ظهور الفيروس (العالمي)، ليكون العالم أقرب فعليًا إلى حالة الجزر المنعزلة، كل دولة تغلق الباب على نفسها، ولا تشغل بالها بما يجري في أي مكانٍ آخر، حتى هذه الاستعراضات المتبادلة بالطائرات التي تحمل مساعداتٍ لا تعدو كونها منافسةً في حفلة تنكّرية، أو نوعًا من التنابز والمكايدة، وخصوصًا مع تكرار مناظر طائرات المساعدة من الجنوب إلى الشمال، وليس العكس، كما يفعل عبد الفتاح السيسي وغيره، حين لا يجدون مكانًا يستحقّ المساعدة سوى دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا، لتبقى القدرة الحقيقية على مواجهة أخطار الجائحة مرهونة بالجهد الذاتي لكل دولة.
على مستوى الأفراد أيضًا، لا يمكن تجاهل أن حالة الأنوية والنرجسية تعمقت أكثر مما كان، سواء فيما تعرف بمجتمعات العالم الأول أو العالم الثالث، إذ تكشف بعض الحوادث الفردية عن انهيارٍ مرعبٍ في فكرة احترام الحق في الحياة، أو حتى جلال موقف الموت، منها على سبيل المثال ما جرى في قرى مصرية من جحود ونكران غير إنسانيين من أهالي بعض القرى ضد أطباء ماتوا متأثرين بالإصابة بالفيروس، وهم يحاربون ضده في الخطوط الأمامية، أو كما جرى في محطة قطارات فيكتوريا بوسط لندن، عندما قرّر مصاب بكورونا أن ينتقم من المجتمع كله، بنقل العدوى إلى من يستطيع، فبصق في وجه موظفة في المحطة رحلت عن العالم، بعد أن افترسها الوباء، وبقيت الشرطة تبحث عن القاتل.
الشاهد أن كل الطغاة لم يتركوا الفرصة تمر من دون استغلالها، كلٌّ على طريقته، فمن كانت غايته مصادرة أكبر قدر ممكن من الحريات وجد في الجائحة مناسبةً ذهبية لملء السجون والزنازين، وزيادة طاقتها الاستيعابية لتشمل أعدادًا جديدة، ومضاعفة أرباحه من الغرامات والعقوبات الموقعة على المواطنين، بزعم مخالفة إجراءات المواجهة.
ومن كانت غايته الاستثمار الاقتصادي وجدها فرصةً جيدة للعصف بالعمالة والأجور، سواء الذين تلقفوها منذ اليوم الأول، أو الذين تذكّروها متأخرين، فقرّروا ألا يدعوها تمر، تستوي في ذلك حكومات أو مؤسسات.
باختصار، الكل في رحاب الجائحة أكثر حرصًا على ابتزاز الفرد، بل وأكثر استعدادًا لذبحه بزعم الحفاظ على المجموع (الدولة – الشركة – الوطن)، إذ يحل هذا الثالوث المقدّس في لحظة بشخص القائد أو الزعيم، الذي يظهر في أزياء كهنوتية، بوصفه الراعي والحامي للوجود البشري من الفناء. وبالطبع، تنشأ على الهامش ديكتاتوريات صغيرة من المتحلقين حول القائد، كانوا ينتظرون الفرصة للتسلط، وأخيرًا وفرتها الجائحة، وكما كان المفكر الفرنسي ديفرجيه يقول "إن الدكتاتورية ليست إلا مرضا من أمراض السلطة، وليست ظاهرة طبيعية".
كلهم يجتمعون على سحق الفرد وذبحه، من دون أن يكون مسموحًا له بحرية التألم أو الشكوى، إذ يعتبرون كل زفرة ألم في أثناء الذبح خيانة للوطن، وتعريضًا لمصالحه العليا للخطر وإفشاءً لأسراره المقدسة.
منتهى البؤس أن يتصوّر المستبدون، من مختلف الأحجام، أنهم أكثر دهاءً من التاريخ، وكأنهم لم يأتهم خبر أن تاريخ الطغاة هو مجموع حكايات ضحاياهم عنهم.
أضف تعليقك